باب تحريم الكذب
باب تحريم الكذب
تطريز رياض الصالحين
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا». متفق عليه.
----------------
مصداق هذا الحديث قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم} [الانفطار (13، 14)]. وفيه: الحث على تحري الصدق، وهو قصده، والاعتناء به، والتحذير من الكذب والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه، أكثر منه، فعرف به، فكتب.
باب تحريم الكذب
تطريز رياض الصالحين
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع من كن فيه، كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». متفق عليه.
----------------
وقد سبق بيانه مع حديث أبي هريرة بنحوه في «باب الوفاء بالعهد». قوله: «وإذا خاصم فجر»، أي، بالأيمان الكاذبة، والدعاوي الباطلة.
باب تحريم الكذب
تطريز رياض الصالحين
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ». رواه البخاري.
----------------
«تحلم»: أي قال إنه حلم في نومه ورأى كذا وكذا، وهو كاذب. و «الآنك» بالمد وضم النون وتخفيف الكاف: وهو الرصاص المذاب. قوله: «من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل». وفي رواية: «عذب حتى يعقد بين شعيرتين». رواه أحمد. لأن الكذب في المنام، كذب على الله، فإن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة. قوله: «ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة». فيه: وعيد شديد، والجزاء من جنس العمل. قوله: «ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ». قال ابن أبي جمرة: مناسبة الوعيد للكاذب في منامه وللمصور، أن الرؤيا خلق من خلق الله تعالى، وهو صورة معنوية، فأدخل لكذبه صورة معنوية لم تقع، كما أدخل المصور في الوجود صورة ليست بحقيقة؛ لأن الصورة الحقيقية هي التي فيها الروح، فكلف صاحب الصورة بتكليفه أمرا شديدا، وهو أن يتم ما خلقه بزعمه، فينفخ الروح فيه. ووقع عند كل منهما بأن يعذب حتى يفعل ما كلف وليس بفاعل، وهو كناية عن دوام تعذيب كل منهما. قال: والحكمة في هذا الوعيد، أن الأول: كذب على جنس النبوة. والثاني: نازع الخالق في قدرته.
باب تحريم الكذب
تطريز رياض الصالحين
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا». رواه البخاري.
----------------
ومعناه: يقول: رأيت، فيما لم يره. قوله: «أفرى الفرى»، أي: أعظم الكذبات. قال ابن بطال: الفرية: الكذبة العظيمة التي يتعجب منها. قال الحافظ: ومعنى نسبة الرؤيا إلى عينيه مع أنهما لم يريا شيئا أنه أخبر عنهما بالرؤية، وهو كاذب.
باب تحريم الكذب
تطريز رياض الصالحين
عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم من رؤيا؟» فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: «إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه، فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى!» قال: «قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى» قال: «قلت: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على مثل التنور» فأحسب أنه قال:... «فإذا فيه لغط، وأصوات، فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا. قال: قلت: ما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على نهر» حسبت أنه كان يقول: «أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح، ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجرا، فينطلق فيسبح، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه، فغر له فاه، فألقمه حجرا، قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة، أو كأكره ما أنت راء رجلا مرأى، فإذا هو عنده نار يحشها ويسعى حولها. قلت لهما: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط، قلت: ما هذا؟ وما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا إلى دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها، ولا أحسن! قالا لي: ارق فيها، فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا، ففتح لنا فدخلناها، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء! وشطر منهم كأقبح ما أنت راء! قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، وإذا هو نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه. ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة» قال: «قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، فسما بصري صعدا، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قالا لي: هذاك منزلك؟ قلت لهما: بارك الله فيكما، فذراني فأدخله. قالا لي: أما الآن فلا، وأنت داخله، قلت لهما: فإني رأيت منذ الليلة عجبا؟ فما هذا الذي رأيت؟ قالا لي: أما إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة. وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق. وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور، فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر، ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود مات على الفطرة» وفي رواية البرقاني: «ولد على الفطرة» فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وأولاد المشركين، وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن، وشطر منهم قبيح، فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، تجاوز الله عنهم». رواه البخاري.
----------------
وفي رواية له: «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة» ثم ذكره وقال: «فانطلقنا إلى نقب مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع؛ يتوقد تحته نارا، فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، وإذا خمدت! رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة». وفيها: «حتى أتينا على نهر من دم» ولم يشك «فيه رجل قائم على وسط النهر وعلى شط النهر رجل، وبين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج جعل يرمي في فيه بحجر، فيرجع كما كان». وفيها: «فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب». وفيها: «الذي رأيته يشق شدقه فكذاب، يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة»، وفيها: «الذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار، فيفعل به إلى يوم القيامة، والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك، فرفعت رأسي، فإذا فوقي مثل السحاب، قالا: ذاك منزلك، قلت: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملته أتيت منزلك». رواه البخاري. قوله: «يثلغ رأسه» هو بالثاء المثلثة والغين المعجمة، أي: يشدخه ويشقه. قوله: «يتدهده» أي: يتدحرج. و «الكلوب» بفتح الكاف وضم اللام المشددة، وهو معروف. قوله: «فيشرشر»: أي: يقطع. قوله: «ضوضوا» وهو بضادين معجمتين: أي صاحوا. قوله: «فيفغر» هو بالفاء والغين المعجمة، أي: يفتح. قوله «المرآة» هو بفتح الميم، أي: المنظر. قوله: «يحشها» هو بفتح الياء وضم الحاء المهملة والشين المعجمة، أي: يوقدها. قوله: «روضة معتمة» هو بضم الميم وإسكان العين وفتح التاء وتشديد الميم، أي: وافية النبات طويلته. قوله: «دوحة» وهي بفتح الدال وإسكان الواو وبالحاء المهملة: وهي الشجرة الكبيرة. قوله: «المحض» هو بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة وبالضاد المعجمة، وهو: اللبن. قوله «فسما بصري» أي: ارتفع. و «صعدا» بضم الصاد والعي، أي: مرتفعا. و «الربابة» بفتح الراء وبالباء الموحدة مكررة، وهي: السحابة. في هذا الحديث: أن بعض العصاة يعذبون في البرزخ. وفيه: التحذير من النوم عن الصلاة المكتوبة، وعن رفض القرآن لمن يحفظه، وعن الزنا، وأكل الربا، وتعمد الكذب. وفيه: أن من استوت حسناته وسيآته، يتجاوز الله عنه، اللهم تجاوز عنا برحمتك يا أرحم الراحمين. قال الله تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم} [التوبة (102)]. قال ابن هبيرة: لما كان الكاذب يساعد أنفه وعينه ولسانه على الكذب بترويج باطله، وقعت المشاركة بينهم في العقوبة.