فوائد في باب النية واحكامها
حديث شريف
هذا حديث عظيم
ولذا فإن العلماء يُصدّرون به مصنفاتهم كما فعل الإمام البخاري.
وقيل في تعليل ذلك: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف.
قال عبد الرحمن بن مهدي: لو صنفتُ كتابا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب. وقال: من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ.
قال ابن رجب: وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها، فرُويَ عن الشافعي أنه قال: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من الفقه. وعن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث:
حديث عمر " إنما الأعمال بالنيات "، وحديث عائشة " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، وحديث النعمان بن بشير " الحلال بيّن والحرام بيّن ".
حديث شريف
وقد قيل:
بصلاح النيّات تُصبح العادات عبادات
وبفساد النيّات تُصبح العبادات عادات
فالعادات من أكل وشُرب ونوم ونحو ذلك إذا صلحت فيها النيّة أصبحت عبادات، إذ الوسائل لها أحكام المقاصد.
والعبادات إذا فسدت فيها النيّات أو غاب عن صاحبها استحضارها ولم يرد عليه الاحتساب كانت أعماله عادات أو كالعادات. لا قيمة لها ولا روح.
حديث شريف
وضابط حصول الأجر من عدمِه أن تكون الحسنة أو السيئة همّـاً عند العبد، كما في حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك ؛ فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة. متفق عليه.
حديث شريف
وإذا صلحت النيّة فربما بلغ العبد منازل الأبرار، وتسنّم المراتب العُلى بحسن نيّته.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
إنما الدنيا لأربعة نفر:
عبد رزقه الله عز وجل مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله عز وجل فيه حقه. قال: فهذا بأفضل المنازل.
قال: وعبد رزقه الله عز وجل علما ولم يرزقه مالا قال فهو يقول: لو كان لي مال عملت بعمل فلان قال فأجرهما سواء.
قال: وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه عز وجل ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقه فهذا بأخبث المنازل.
قال: وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو كان لي مال لعملت بعمل فلان. قال: هي نيته فوزرهما فيه سواء. رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
حديث شريف
فائدة
لا علاقة لورود هذا الحديث بحديث مهاجر أم قيس.
وحديث أم قيس قال عنه الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.
وقال الذهبي - بعد أن ذكر رواية الطبراني -: إسناده صحيح.
وقال ابن حجر - بعد أن ذكر رواية الطبراني -: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سِيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك.
حديث شريف
تفصيل مسألة دخول الرياء على النيّة
ينقسم العمل الذي يُخالطه أو يُصاحبه الرياء بالنسبة لقبول العمل من عدمه إلى أقسام:
أن يُصاحبه الرياء من أصل العمل فيحبط العمل بالكليّة.
أن يطرأ عليه الرياء خلال العمل دافعه فإنه لا يضرّه، وإن لم يُدافع الرياء فَلَهُ حالات:
إن كان العمل مما يتجزأ، كالصدقة ونحوها، فما دَخَلَه الرياء فهو حابط، وما لم يدخل الرياء لم يحبط.
وإن كان مما لا يتجـزأ كالصلاة ونحوها فإنها تحبط، لعـدم مُدافعته للرياء.
والنيّة أصل في صلاح الأعمال
ولذا قال عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه. رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
والمُراد بذلك النيّة.
حديث شريف
والرياء في العمل يكون وبالاً وعذاباً وحسرةً على صاحبه يوم القيامة، يوم يُشهّر بصاحبه على رؤوس الأشهاد، وعندها تزداد حسرته وندامته.
فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به. رواه مسلم عن ابن عباس، وروى البخاري مثله عن جندب بن عبد الله.
قال العز بن عبد السلام: الرياء أن يعمل لغير الله، والسمعـة أن يخفي عمله لله، ثم يحدث به الناس.
قال الفضيل بن عياض: كانوا يقولون ترك العمل للناس رياء، والعمل لهم شرك. عافانا الله وإياك.
حديث شريف
وإخلاص العمل لله سبب لسلامة القلب
قال صلى الله عليه وسلم: ثلاث لا يَـغِـلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة ؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم. رواه أحمد وأهل السنن.
قال ابن عبد البر: معناه لا يكون القلب عليهن ومعهن غليلا أبـداً، يعني لا يقوى فيه مرض ولا نفـاق إذا أخلص العمل لله، ولزم الجماعـة، وناصح أولي الأمر.
وقال ابن رجب: هذه الثلاث الخصال تنفي الغل عن قلب المسلم. انتهى كلامه - رحمه الله -.
فعدمُ الإخلاص يُورث القلبَ الأضغان والأحقاد.
حديث شريف
فالمسألة الأولى: ما يتعلق بألفاظ الحديث، ومنها:
إفادة الحصر في قوله: إنما الأعمال بالنيات.
وتقديرها: إنما تكون الأعمال صالحة ومقبولة عند الله بالنيات الصالحة.
وقوله: وإنما لكل امرئ ما نوى. وإن أظهر غير ذلك، فالله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية.
ولذا لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضبا، ويقاتل حمية، فرفع إليه رأسه، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل. رواه البخاري ومسلم.
وهذا جواب الحكيم – كما يُقال – فلم يُعدد عليه الأغراض التي لا تكون في سبيل الله لكثرتها، وإنما حصر له الجواب في تحديد من هو في سبيل الله عز وجل.
وعند النسائي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: من غزا في سبيل الله ولم ينوِ إلا عقالاً فله ما نوى.
وقوله عليه الصلاة والسلام: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. أعاد الجملة الثانية معطوفة على الأولى لأهمية هذا العمل، وهو الهجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
بينما في آخر الحديث قال: فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. لم يُعد الجملة كما في الأولى لسببين:
الأول: حقارة هذا الأمر الذي يُهاجر الإنسان من أجله.
الثاني: لتعدد الأغراض التي يُهاجر لها الناس، فلا تنحصر في دنيا أو زواج.
حديث شريف
والمسألة الثانية: الكلام على الهجرة
فالهجرة في اللغة تُطلق على التّـرك
وفي الاصطلاح: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
والهجرة باقية ما بقيت التوبة، لقوله عليه الصلاة والسلام: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. رواه الإمام أحمد وأبو داود.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: لا هجرة بعد الفتح. كما في الصحيحين، فالمقصود به لا هجرة مِن مكة – شرّفها الله وحرسها – لأنها صارت دار الإسلام، فلا يُهاجر منها.
حديث شريف
والمسألة الثالثة: الاحتساب في المباحات وفي التّروك
عندما يحتسب المسلم في أكله وشُربه ونومه وقيامه فإنه يؤجر على نيته هذه.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم يؤجر في أخص حظوظ نفسه، فقال: وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام. أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا. رواه مسلم.
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، قال لهما: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تُنفّرا. فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه، وكان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا، فسلّم عليه، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه... فقال معاذ حين نزل: يا عبد الله كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوّقه تفوقاً. قال أبو موسى: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كَتَبَ الله لي، فأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي. رواه البخاري ومسلم.
فقوله رضي الله عنه: أحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي.
أي أنه يحتسب في نومته، وينوي بها الاستعانة والتّقوّي على قيام الليل.
فالمسلم إذا استحضر النية فإنه يؤجر في سائر عمله، حتى في المباحات.
قال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه: أوصني. قال: يا بُني انوِ الخير فإنك بخير ما نويت الخير.