تُصوِّر النفس لصاحبها تشدد غيرها لتُبرر تساهلها، وتُصوّر تساهل غيرها لتُبرر تشددها.. التشدد والتساهل يُقاس بالبعد عن الحق لا بالبعد عنك.

الأصل إذا تم الغلو في طرحه أخذ من حق أصل آخر، واضطرب الاعتدال، كما تم الغلو في تقرير (التسامح) حينما احتاج الغرب لغزو الشرق ولمّا انتهى تُرك.

الغلو موجود، ولكن يكثرون من رصده وإثارته حتى تتجه الأنظار إليه فزِعةً، وينشأ الانسلاخ في الظل... المفزوع من شيء لا يشعر أن يده جُرحت حتى يهدأ.

الانشغال بنقد الغلو يورث الانسلاخ، والانشغال بنقد الانسلاخ يورث الغلو، والاعتدال هو التعريف بالحقّ ونقد كل دخيل عليه على السواء.

الغلو في الدين والانسلاخ منه بابان للخروج من الدين، وجل الدول الساقطة سقطت بانسلاخها من دينها لا بغلوها فيه، هربت من الغلو فسقطت بالانسلاخ.

من عاش بعقله وبصره في جو الانفلات والانحلال فسيصف الاعتدال بالتشدد والغلو لا محالة، وعكسه بعكسه.

المنسلخ بقدر بعده عن الوسطية يصف المتوسط بالغلو، والغالي بقدر بعده عن الوسطية يصف المتوسط بالانسلاخ، الوسطية لا يراها بدقة من كان بعيدا عنها.

الوسطية محلّها في رضا الله عنك لا في اجتماع الأطراف والتيارات عليك.

الوسطية لا تعني أن تقف بين جماعتين، فقد تكونون ثلاثتكم في اليمين أو الشمال.. الوسطية أن تبصر موضع قدميك (مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

يظنون الوسطية أن يقفوا بين الحقّ والباطل ويسلموا من نقد الجميع {يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} النساء 91.

الوسطية رسم معالمها الوحي وليست لكل من نزل بين فكرين أن يجعلها وسطية فيشد رحله يتتبع منازل المختلفين ليتوسطهم فتلك وسطيته لا وسطية الإسلام.

اختلاق الوسطية هربًا من محرم قطعي كمن يوسِّط شيئًا بين تمرة وبين قشرها فلا تأخذ حكم جوفها ولا خارجها ومن وضعها يعلم أن الآكل للتمرة سيأكلها.

تقسيم الحق وتبعيضه ليست وسطية، الوسطية هي الحق كله { وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} النساء 150، 151.

أكبر خطأ الباحثين عن الوسطية بحثهم عنها بين تيارات الطوائف وليس بين الأدلة، فإذا تغيرت قوّة رياح التيارات تغيّر وتحوّل، ولو تمسك بالدليل ثبت.

الوسطية خطٌ رسمه الله للناس، وسطية لا يُبحث عنها بين الخطوط {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} البقرة 143.. جعلها الله وانتهى، البحث عنها بين الخطوط شكٌّ.

الوسطية صراط خطه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر الناس بالسير عليه لا بالبحث عنه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام 153.

الوسطية ثابتة والناس تبتعد منها وتقرب{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} البقرة 143، علامة الوسطية وجود نبيها {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} البقرة 143.

الوسطية لا ترسمها الأذهان، وإنما قضى أمرها الرحمن {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} البقرة 143، من وجد فكره بعيدا عن الوحي عليه أن يذهب إليه لا أن يجر الوحي إليه.

الوسطية في القرآن هي {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} هود 112، فلا تأخذ يميناً فتغالي فيه {وَلَا تَطْغَوْا} هود 112، ولا شمالاً فتنسلخ منه إلى أعدائه {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} هود 113.

قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} هود 112، يستقيم كما (أُمر) لا كما (يُريد) وهو نبي معصوم، ولو كان لأحدٍ أن يستقيم كما يريد ويهوى لكان محمد صلى الله عليه وسلم.

الاستقامة أمان للعبد من عوارض المنية فيكون مستعداً لها كل حين فإن العبد لا يدري متى تقوم قيامته قال الله لنبيه {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} هود 112.