المخططات الإسرائيلية لتهويد القدس.. إلي أين؟!
فتحت الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة بشأن القدس المجال لكثير من الاجتهادات والتكهنات والتخمينات. فالبعض خشي أن تؤدي لمزيد من الصدامات والاشتباكات. وهناك من ذهب إلي قيام إسرائيل بفرض واقع يضاعف من حساسية قضية القدس ويخلط الأوراق والأولويات في المنطقة. فغالبية الترتيبات تنطوي علي رغبة واضحة لإحكام القبضة الإسرائيلية علي هذه المدينة ومقدساتها. لكن قراءة بعض الوقائع السابقة يمكن أن تفسر الكثير من الأمور وتقودنا إلي إعادة تقويم المشهد بما يؤكد إخفاق المخططات الماضية في الوصول إلي أهدافها كاملة. ففي الخامس عشر من أغسطس1967 دخل الحاخام العسكري الرئيسي شلومو جورن وحاخامات الهيئة الحاخامية العليا إلي ساحة الحرم القدسي الشريف من باب المغاربة وحملوا معهم بوقا وخزانة المقدسات ومنصة متحركة وأقاموا الصلاة في المكان، بعد ثلاثة أيام رغب جورن بجمع آلاف المصلين اليهود في المكان وفرض سابقة بذلك وتناقضت خططه وتحركاته تماما مع الوضع القائم الذي قرر وزير الدفاع موشيه ديان فرضه بعد أسبوع من حرب يونيو، حيث قرر أن يسمح لليهود بزيارة الحرم، ولكن من دون الصلاة فيه، وتسببت أعمال جورن في احتجاجات إسلامية قوية وعاصفة جماهيرية أدت إلي اتخاذ الحكومة قرارا رسميا كانت تتجنب اتخاذه حتي ذلك الحين يتيح لليهود الذين يرغبون في الصلاة في الحرم أداء شعائرهم في الحائط الغربي( حائط البراق الذي يطلقون عليه حائط المبكي) ولن يسمح لهم بالصلاة داخل الحرم.
وأدي التوتر الذي حدث في تلك الأيام إلي بلورة وضع آخر في باب المغاربة، تمخض عن الواقع القائم في المكان منذ أربعين عاما. وردا علي الخطوات التي اتخذها جورن قام المسئولون في الأوقاف الإسلامية بخطوة مقابلة، فأغلقوا بوابة المغاربة ولم يسمحوا لحاخامات الهيئة الحاخامية العليا بالدخول، وعلم الجمهور لأول مرة بأن بناية أبو السعود المجاورة للبوابة تحتوي علي مكتب لموظفي الحاخامية الرئيسية، وما إن نشر الخبر حتي أمر ديان بإخلائهم من هناك ووضع في الموقع وحدة للشرطة العسكرية. ولم ينته الخلاف عند هذا الحد، ففي أغسطس من العام1967 تداولت الحكومة في ترتيبات الزيارة للحرم وجبت إدارة الاوقاف من كل يهودي إسرائيلي أو سائح يرغب في الدخول إلي الحرم رسوم دخول بينما أعفت العرب من ذلك.. واحتج عضو الكنيست مناحيم بيجن علي ذلك وتبني وزراء الحكومة موقفه، ويناقض إلزام الاسرائيليين بالدفع مبدأ حرية الوصول، ولذلك ستقوم إسرائيل بالسيطرة علي البوابة منذ الآن فصاعدا، هذا ما جاء في قرار الحكومة واعتبر وزير الأديان زيرح فيرهفتيج نفسه مسئولا عن تطبيق هذا القرار وطالب مدير الأوقاف حسن طهبوب باعطائه المفاتيح، لكن طهبوب رفض ونشر المجلس الاسلامي الاعلي بيانا جاء فيه أن الحرم الشريف هو مكان مقدس للمسلمين، وأنه لايوجد حق لأي طرف عليه.. من حق الحكم الإسرائيلي مراقبة الامن في الموقع ولكن ليس السيطرة عليه وأوضح المجلس الاعلي أنه لاينوي تسليم المفاتيح.
بعد أيام معدودات صرح ديان بأن مطلب السماح بحرية دخول اليهود إلي الحرم قد قبل. وقام ديان وقائد المنطقة الوسطي عوزي نركيس في تلك الأيام بزيارة باب المغاربة. وأخذ دافيد فرحي، مستشار نركيس للشئون العربية المفاتيح من طهبوب ووضع أفراد الشرطة العسكرية عند البوابة عقب احراق المسجد الاقصي في أغسطس1969 قرر المفتي الشيخ حلمي محاولة استعادة السيطرة علي باب المغاربة. ووجد ديان أن علي إسرائيل أن تتطلع لإعادة الوضع القائم الذي كان سائدا في السابق. وعلي إثر اتصالات مع الأوقاف فتح باب المغاربة، وبعد شهر من ذلك قرر المجلس الإسلامي الأعلي فتح كل بوابات الحرم أمام الزوار، وبقيت المساجد نفسها مغلقة أمام الزوار لسنة اخري، وفتحت للجمهور فقط في أكتوبر1970. بقي باب المغاربة منذئذ تحت السيطرة الاسرائيلية وطوال السنين سمحت الشرطة لأتباع( جبل الهيكل) بالصلاة فوق التلة الترابية المفضية إلي باب المغاربة، كما استخدمت هذه البوابة خلال المظاهرات التي جرت في الحرم في اكتوبر1990 واقتحمت ساحة الحرم من خلالها، بعد أن احتلت جموع المسلمين الغاضبة المنطقة لعدة ساعات.
وبينما كانت مكة المكرمة تستقبل المسئولين الفلسطينيين لتشكيل حكومة وحدة وطنية، بدأت ثلاث جرافات إسرائيلية تابعة لهيئة الآثار بجرف التل الواقع عند باب المغاربة المؤدي إلي الحرم القدسي وادعت السلطات الإسرائيلية أن هذه العملية تهدف إلي إقامة جسر معدني يفضي إلي باب المغاربة بدلا من الجسر الخشبي الذي تضرر خلال عاصفة ثلجية ومن أجل إقامة الجسر المعدني هناك حاجة إلي حفر قواعد عميقة له وجرف تل المغاربة الواقع عند باب المغاربة، وتخشي الجهات الاسلامية في القدس أن تستغل إسرائيل أعمال الإعداد للجسر الجديد كي تحفر تحت المسجد الأقصي، وأن إزالة تل المغاربة ستكشف مسجد البراق وتؤدي إلي دخول الإسرائيليين إلي أسفل المسجد الأقصي، كما ان أعمال الحفر تؤثر علي طريق صلاح الدين الأيوبي التاريخي المؤدي إلي الحرم القدسي وهنا نشير إلي ان هناك موضوعين يسببان قلق الجهات الاسلامية في القدس: الأول موضوع الحفريات التي تقوم بها إسرائيل منذ عدة سنوات بجوار الحائط الجنوبي للمسجد الاقصي، والثاني عملية بناء جسر معدني بدلا من الجسر الخشبي الحالي المؤدي إلي باب المغاربة، وما يتطلبه ذلك من وضع أساسات عميقة قد تؤثر علي أساسات المسجد الاقصي، علاوة علي إزالة تل المغاربة وكشف مسجد البراق الذي يمكن التسلل منه إلي أسفل المسجد الاقصي.
وبعد خمسين عاما علي احتلال القدس الشرقية وخطط ومشاريع التهويد، فإنها لاتزال عربية الوجه واليد واللسان تنتصب شامخة متحدية كل محاولات ومخططات تذويب وتزييف هويتها العربية والاسلامية، فالإنسان هو من يمنح الارض هويتها وانتماءها، وليست القرارات السياسية أو المخططات العمرانية والهيكيلية، فبعد أيام معدودة من احتلال إسرائيل للضفة الغربية أعلنوا قرار الكنيست بضم القدس الشرقية إلي القدس الغربية المحتلة واعتبارهما معا عاصمة موحدة لإسرائيل وباشروا منذ ذلك التاريخ أوسع عملية للاستيطان في القدس الشرقية والاستيلاء علي أحياء كاملة داخل أسوار القدس القديمة.
وأعلنت إسرائيل عن مخطط جديد أطلقوا عليه تسمية القدس الكبري، أو القدس المتروبوليتانية يوسع حدود القدس الشرقية إلي مشارف مدينة أريحا والبحر الميت بحيث تضم هذه المدينة قرابة خمس المساحة الاجمالية للضفة الغربية، وتفصل شمالها عن جنوبها ولتطبيق المخطط الجديد، قام الصهاينة بإنشاء عشرات المستوطنات اليهودية في السفوح الشرقية لمدينة القدس وقدموا الكثير من الامتيازات والمغريات لحمل المستوطنين اليهود علي الانتقال والسكن في المستعمرات الجديدة، ضمن مسعي لا يكل لتهويد المدينة المقدسة وإيجاد واقع سكاني ـ جغرافي مفروض علي الشعب الفلسطيني كأمر مفروغ منه.
عقب انتفاضة الاقصي اكتشفت إسرائيل أن القدس الشرقية لاتزال عربية ـ إسلامية وأن كل ما بذلوه من جهود وما أنفقوه من أموال لتهويد المدينة المقدسة ذهب أدراج الرياح، وتعود الأسباب إلي فشل الخيار السكاني، فقد أصبح يعيش اليوم في القدس الشرقية وقراها المحيطة نحو260 الف فلسطيني يرفضون حمل الجنسية الاسرائيلية ويرون أنفسهم جزءا لاينفصل عن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وفشل عمليات التهويد السكانية والعمرانية علي الارض، فأي مراقب عادي يتجول في شطري المدينة الغربي والشرقي، سيكتشف بسهولة أنه أمام مدينتين منفصلتين ومختلفتين كليا من جميع النواحي العمرانية والسكانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأن الزعم بأن هذين الجزءين يشكلان مدينة واحدة موحدة أو أنهما ستكونان كذلك في المستقبل، لايزيد عن كونه هذيانا مرضيا، فنحن في واقع الحال أمام مدينة فلسطينية في كل شيء في مواجهة مدينة يهودية من حيث الطابع السكاني والاقتصادي والثقافي.
ومن حيث التصور السياسي لم يعد بوسع إسرائيل أن تتجاهل الأهمية الحيوية للقدس عند الفلسطينيين والعرب والمسلمين وبالتالي فإن أي توجه أو حديث عن تسوية سياسية للصراع لم يعد ممكنا أو واقعيا ما لم يتضمن الانسحاب من القدس الشرقية. وعلي ضوء هذه المعطيات فإن الحديث عن دولة فلسطينية بدون القدس أو الاستمرار في الحديث عنها بوصفها عاصمة موحدة لدولة إسرائيل يعني فتح بوابة الصراع علي مصراعيها لأجيال قادمة.
مختارات