المرأة في تاريخنا ليست مجرد (عفة)
ربما تصيبنا الحيرة في بعض الأحيان، والخجل في أحيان أخرى، حينما تتم المقارنة بين حال المرأة في التاريخ الإسلامي، وبين ما وصلت إليه نظيرتها الغربية، من فاعلية وتأثير ومشاركة في حركة المجتمع.
وأقصى ما نستطيعه في هذا المجال، هو المقارنة بين عفة المرأة المسلمة، وكيف أن الإسلام حفظها وحافظ عليها، بينما فرطت الغربية في عفتها وذبح شرفها في مذابح علب الليل الماجنة.
وهو استدلال وجواب غير صحيح، وفي غير محله، ويشوبه العوار من أكثر من ناحية..
الناحية الأولى، أننا نقر بهذا الجواب انزواء المرأة المسلمة عن حركة التاريخ، وأنها تفرغت لتربية الأولاد والعناية بشئون الزوج والبيت، وفقط، وهذا غير صحيح بالمرة، فلم تكن المرأة كذلك، في عهد النبوة، ولا فيما تبعه من عهود الخلافة الراشدة، مع تعظيمنا لهذه الأدوار كلها.
الناحية الثانية، أننا نقلل من حجم المرأة ودورها في التاريخ الإسلامي، وننظر إليها فقط من منظور العفة وفقط، ولاشك أن العفة تاج رأس المرأة، ولا تضارب أو تعارض بين الحفاظ على العفة والطهر، وبين المشاركة والفاعلية في حركة الحياة والمجتمع، وهو ما كان عليه حال المرأة.
وقد آثرت أن اثبت خطأ هذا التصور، بكافة تفاصيله، بوقائع من التاريخ الإسلامي ذاته، منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة، وما بعد ذلك، لنؤكد أن دور المرأة في التاريخ ليس من فصل واحد هو عهد النبوة، ثم انقضى إلى حال سبيله، فهو دور ممتد عبر التاريخ الإسلامي، ولم ينزو إلا في عهود التخلف والجمود العقلي والفقهي معا.
فقد ضربت المرأة المسلمة في عهود الإسلام الأولى أروع الأمثلة، وبرزت في مجال التجارة والجهاد والعلم حتى رأينا الشاعرة والفقيهة، وكانت شريكة الرجل في صناعة المجتمع والدفع عن الإسلام وتبليغ الدعوة.
ولعلنا نتذكر ما قامت به السيدة خديجة – رضي الله عنها – مع الرسول صلى الله عليه وسلم حيث دثرته وأذهبت الروع عنه، وقالت قولتها المشهورة:”تالله لن يخذلك الله أبدًا، إنك لتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر”. ومن مفاخر السيدة خديجة أيضاً أنها كانت مثالاً للمرأة العاملة في الميدان الاقتصادي كتاجرة بمالها، ولم تبخل بذلك المال في سبيل الدعوة إلى الإسلام.
وهذه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين التي قامت في ريعان شبابها بدور الفدائية، إذ كانت تحمل الطعام والشراب كل مساء متسللة تحت جنح الظلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها رفيقه في الغار حتى لا تراها عيون المشركين المتربصين بهما، والهول يتهددها في كل لحظة.
وهذه أسماء بنت يزيد تجاهد وتغزو وتقتل تسعة من الرُّوم، فقد روى محمد بن مهاجر، وأخوه عمرو، عن أبيهما، عن أسماء بنت يزيد قالت: قتلت يوم اليرموك تسعة. وكذا أم سليم الرُّميصَاء تتجهز بخنجرها للأعداء يوم حُنَيْنٍ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأَخَذَ أَسْلابَهُمْ وَلَقِيَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا مَعَكِ؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ وَاللَّهِ إِنْ دَنَا مِنِّي بَعْضُهُمْ أَبْعَجُ بِهِ بَطْنَهُ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وفي عهود ما بعد الخلافة الراشدة، نجد سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية تقوم بدور سياسي نيابة عن قومها، حينا دخلت على معاوية بن أبي سفيان شاكية، فقالت: يا أمير المؤمنين أنت للناس سيد ولأمورهم مقلد. والله سائلك عما افترض عليك من حقنا. ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك ويبسط بسلطانك فيحصدنا حصاد السنبل ويدوسنا دياس البقر ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة. هذا ابن أرطاة قدم بلادي وقتل رجالي وأخذ مالي، ولو لطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما لو عزلته فشكرناك وإما لا فعرفناك. فقال معاوية: اكتبوا إليها بالإنصاف لها والعدل عليها. فقالت: إلى خاصة أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قالت: هي والله إذن الفحشاء واللؤم؛ إن كان عدلاً شاملاً، وإلا يسعني ما يسع قومي. قال اكتبوا لها بحاجتها.
وتقوم أسماء بنت أبي بكر بدور رائد في المعارضة السياسية، حينما دخل عليها الحجاج بن يوسف الثقفي بعد ما قتل ابنها عبد الله بن الزبير – وقد صلبه على جذع فوق الثنيّة- فقال: أرأيتِ كيف نصر الله الحق وأظهره فقالت: ربما أديل الباطل على الحق وأهله وإنك بين فرثها والجنة فقال: إن ابنك ألحد فى هذا البيت، وقد قال الله تعالى: “ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ندقه من عذاب أليم” وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم، قالت: كذبت كان أول مولود فى الإسلام بالمدينة، وسُرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنَّكَه بيده وكبَّر المسلمون يومئذ حتى ارتجَّت المدينة فرحًا به، وقد فرحت أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح يومئذ بمولده خير منك ومن أصحابك، وكان مع ذلك برًّا بالوالدين صوَّامًا قوَّامًا بكتاب الله معظّمًا لحرم الله؛ يبغض من يعصي الله عز وجل، أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لسمعته يقول: سيخرج من ثقيف كذّابان الآخر منهما شرٌّ من الأول، وهو مبير فانكسر الحجاج وانصرف.
وفي مجال العلم نجد عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية الفقيهة، تربية عائشة وتلميذتها، روى القاسم بن محمد أنه قال: أتيتها -لطلب العلم- فوجدتها بحرًا لا ينزف، وكثير من الفقيهات على مرّ التاريخ ذُكرن في كتب أهل العلم، وتراجمهن معلومة أمثال: فاطمة أمّ البنين النيسابوريّة، وفاطمة بنت القاسم، وخديجة بنت الحسن، وغيرهن الكثير.
وقد تواترت تراجم النساء في ذكر أسماء عديد من النساء اللواتي رحلن، وحصلن على إجازات علمية من كبار مشايخ العصر في مختلف المدن، من ذلك ما يرويه الحافظ الكبير ابن عساكر في ترجمته لفاطمة بنت سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري الأندلسي من أنها ولدت في البحرين، ورحل بها أبوها إلى أصفهان، فسمعت بها من العالمة فاطمة بنت عبدالله الجوزادنية، ثم قدم بها بغداد، فسمعت من جماعة من كبار العلماء، ثم قدمت دمشق مع زوجها علي بن نجا الحنبلي، وسمع منها بعض طلبة الحديث. وأشار إلى أنها: “كانت تعظ النساء في المساجد”.
وقد تكرر ذكر العلماء الأعلام لعديد من النساء العالمات اللائي تلقوا على أيديهن، أو أنهن أجزنهم في علم من العلوم، فتكرر لديهم عبارات: أخبرتنا فلانة أو سمعنا من فلانة كثيرا من خلال ترجمة إحدى النساء العالمات، أو سرد حديث من الأحاديث الشريفة، كان من هؤلاء الخطيب البغدادي، والحافظ ابن عساكر، وابن حجر، وغيرهم من العلماء.
وبرز من النساء، كذلك، من أتقن علوما إنسانية كالرياضيات والفلك والطب والصيدلة، وغير ذلك من العلوم، وكن مثالا في التعلم ونشر العلم بمختلف الوسائل المتاحة لهن، وقد نتج عن ذلك أن نبغ في ديار الإسلام عدد كبير من النساء العالمات في مختلف علوم العصر، وكان لهن أثر واضح في إثراء الحركة العلمية في تاريخنا الإسلامي على مر عصوره.
ومما عنيت به المرأة المسلمة من العلوم: علم الطب الذي لم يقتصر النبوغ فيه على الرجال، بل كان لعديد من نساء المسلمين أثر واضح فيه، فقد نبغ عدد منهن في صناعة الطب وممارسته عمليا.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصلت المرأة المسلمة في علم الطب وصناعته إلى مرتبة الرئاسة، وقد أشار إلى ذلك أحمد عيسى بك في كتابه: “تاريخ البيمارستانات في الإسلام” حينما قال:”فقد تخطى الاهتمام بالطب الرجال إلى النساء، فكان منهن طبيبات بارعات، بل كان منهن من تولت مشيخة الطب في حاضرة من أعظم حواضر الإسلام”، وهو يقصد بذلك: بنت الطبيب شهاب الدين أحمد بن الصائغ الذي توفي سنة (1036 هـ – 1626م) عن مشيخة دار الشفاء المنصوري بالقاهرة، ولم يخلف إلا بنتا تولت مكانه مشيخة الطب.
وكان للنساء أيضا مشاركة فعالة في تشجيع حركة التعليم في بعض عصور الإسلام عن طريق الإسهام بإنشاء المدارس ودور التعليم على اختلافها، ووقف الأوقاف القائمة بها، فثالث مدرسة أنشئت ببغداد في العصر العباسي كانت من إنشاء تركان بنت طراج الجلالية زوجة السلطان السلجوقي ملكشاه (ت487هـ – 1094م).
اسم الكاتب: أبو لجين إبراهيم*
مختارات