حقيقة الشرك وأنواعه (1)
يتضمن توحيد الله تعالى الذي بعثت به أنبياء الله تعالى توحيدَ القصد والإرادة إليه سبحانه بأن يكون الله تعالى غاية العبد ومبتغاه، ويتضمن توحيد الله أيضًا توحيده بالاستعانة والتوكل فلا يفزع القلب لغيره فيما فيه جلب منفعة أو دفع مفسدة، وعليه فالشرك بالله تعالى يكون بعدم إخلاص القصد والإرادة له سبحانه بالحب والتأله، ويكون الشرك أيضًا باتخاذ وسائط لجلب النفع، أو دفع الضر، سواء على سبيل الدعاء والطلب، أم على سبيل التقرب والعبادة، وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك بالله تعالى، وهو يعني أن التوحيد اعتقاد وعمل، وكذلك الشرك، وليسا مجرد اعتقاد كما يرى كثير من المتكلمين.
وقد كان من آثار القول بأن الشرك مجرد اعتقاد فقط؛ عدم الحكم بالشرك على من وقع في أعمال شركية كبرى مخرجة من الملة، فمن صرف شيئًا من أنواع العبادة كالذبح والنذر ونحوها لغير الله تعالى لم يكن شركًا عندهم؛ إلا إن اعتقد الفاعل استحقاق العبادة لمن صرفت له تلك العبادات، وكذا اتخاذ الوسائط بالسؤال والطلب بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ليس شركًا إلا إذا تضمن ذلك اعتقاد استقلالية المطلوب وقدرته على الاختراع الذي هو حقيقة الألوهية عندهم. وإن صريح الكتاب والسنة يرد مثل هذا الاعتقاد والتفسير للشرك، وقد كان أهل الجاهلية معتقدين ربوبية الله تعالى، وأنه الخالق الرازق المدبر لهذا الكون، ومع ذلك سماهم الله تعالى مشركين وقد كان شركهم شرك قصد وإرادة، أو شرك طلب وواسطة، لا شرك اعتقاد فقط
ومما ذكره القرآن من حوراتهم مع معبوداتهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 97، 98]، قال ابن القيم: " وهذه التَّسوية إنما كانت في الحبِّ والتَّألُّه، لا في الخلق والقدرة والرُّبوبيَّة، وهي العدلُ الذي أخبَر به عن الكفَّار بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، وأصحُّ القولين: أنَّ المعنى: ثمَّ الذين كفروا يعدلون بربِّهم، فيجعلون له عِدلًا يحبُّونه ويعبدونه كما يحبُّون الله ويعبدونه "، ولا بد لتجلية حقيقة ذلك من بيان أنواع الشرك كلها الاعتقادية والعملية، نذكر في هذا المقال شرك الاعتقاد والطلب، ونرجئ غيرهما إلى مقالة لاحقة بإذن الله تعالى.
أولًا: شرك الاعتقاد: وهو اعتقاد شريك مع الله تعالى، يُثبت له ما هو خاص لله تعالى، سواء في ذاته سبحانه، أم في أسمائه وصفاته، أم في أفعاله. وقد رد الله تعالى هذا النوع من الشرك بكل أقسامه، وبين بطلان الشرك في ذاته سبحانه بأن الرب الحق لا يمكن أن يشاركه غيره في الخلق والملك، ووجود رب ليس له كل الخلق والتدبير قدح في ربوبيته، لأن الرب الحق هو خالق كل ما عداه، وهو رب كل شيء وخالق كل شيء، ولذا بين الله تعالى بطلان ربوبية الآلهة المعبودة من دونه بأنها مخلوقة مربوبة، وأنها لو كان لها الربوبية لابتغت سبيلًا إلى مغالبة الله تعالى على ملكه وسلطانه، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42].
قال السعدي: " أي لطلبوا السبيل وسعوا في مغالبة الله تعالى، فإما أن يعلوا عليه فيكون من علا وقهر هو الرب الإله، فأما وقد علموا أنهم يقرون أن آلهتهم التي يعبدون من دون الله مقهورة مغلوبة ليس لها من الأمر شيء؛ فلمَ اتخذوها وهي بهذه الحال؟ فيكون هذا كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ". يقول ابن جرير في تفسير الآية السابقة في كلام السعدي: " إذن لاعتزل كل إله منهم (بِمَا خَلَقَ) من شيء فانفرد به، ولتغالبوا فلعلا بعضهم على بعض، وغلب القويّ منهم الضعيف؛ لأن القويّ لا يرضى أن يعلوه ضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون إلها، فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها لمن عقل وتدبر ".
والمقصود هنا ليس نفي الآلهة التي عبدت بغير حق، وإنما نفي وجود آلهة بحق، لأن وجودها لا بد أن ينشأ عنه اضطراب المخلوقات، وما دام أن المخلوقات منتظمة فهذا يعني عدم وجود إله آخر مع الله تعالى، قال ابن كثير: " أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات الأرض ". وكما أن لله تعالى الوحدانية في ربوبيته؛ فله الوحدانية في أسمائه وصفاته وله في ذلك الكمال المطلق الذي لا نقص فيه، قال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
قال ابن عطية: " السمي بمعنى المسامي والمضاهي "، أي ليس له مماثل ولا نظير في شؤونه كلها سبحانه وتعالى، فهو سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، بل له الكمال المطلق سبحانه: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60] قال ابن كثير في تفسيرها: " أي: الكمال المطلق من كل وجه، وهو منسوب إليه ".
والآيات الدالة على تفرده سبحانه بالكمال المطلق كثيرة معروفة. ويكون الشرك في صفاته سبحانه إذا ما أثبت المرء صفة من صفات الله تعالى الخاصة به لغيره من خلقه، ولو كان المثبت يعتقد أنها صفة من صفات الله تعالى، وأن إثباتها للموصوف بها من الخلق لا يخرجه عن كونه مخلوقًا مربوبًا لله تعالى، كمن أثبت صفة علم الغيب لغير الله تعالى، أو القدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، أو أي صفة من صفات كمال الله تعالى الذاتية أو الفعلية فقد أشرك بالله تعالى.
ثانيًا: شرك الطلب: وهو اتخاذ وسائط بين الخالق والمخلوق سواء فيما يتعلق بالتدبير والتصريف، أو فيما يتعلق بالتشفع إلى الله تعالى لتقريب طالب الشفاعة، ويكون اتخاذ تلك الوسائط بتعلق القلب بها من جهة الاستعانة لجلب نفع أو دفع ضر، أو بالتقرب لتلك الوسائط بنوع من أنواع العبادة رجاء خيرها ودفع شرها، فذلك من الشرك بالله تعالى، حتى لو كان الفاعل لذلك يعتقد عدم قدرة تلك الوسائط على الخلق والتدبير في الخلق، ولكن لظنه أن تلك الوسائط مصدر خير وعطاء لمن تعلق بها، جاءها ذلك لمكانتها عند الله تعالى، فهو يعتقد أنها تعطي من تشاء ما يشاء، وتقرب من تشاء إلى الله تعالى. وشرك الطلب هذا هو مما كان عليه المشركون في الجاهلية مع أصنامهم، قال تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، قال قتادة: " كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله، فيقال لهم: ما معنى عبادتكم للأصنام؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده ".
ثم إن المشركين في الجاهلية وما قبلها كانوا قد اتخذوا من المحسوسات أصنامًا وحجارة يذكرونهم بتلك الوسائط، ولا اعتبار لتلك المحسوسات لذاتها، وإنما لأجل تعلقها بما اتخذوه واسطة بينهم وبين الله تعالى.
قال ابن تيمية: " فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين ". وقد أبطل الله تعالى شرك الطلب هذا في غير ما آية من كتابه، فمن ذلك قوله تعالى في الشفاعة: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 44]ومن أثبت لغير الله تعالى شفاعة بمعنى أن للمخلوق حقًا عند الله تعالى؛ فقد قيَّد إرادة الله تعالى بإرادة المخلوق، وجعل إرادة المخلوق نافذة على إرادة الله تعالى وذلك شرك بالله تعالى، والله سبحانه يقرر غير ذلك إذ يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى، وإرادته كذلك، ولا حق لأحد بالشفاعة عند الله تعالى إلا إن أذن الله له، وكان من أهل التوحيد، وكانت شفاعته في الحق والصواب أيضًا، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]
وقال تعالى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] ولذا لم يقبل الله تعالى شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم في أمه، قال صلى الله عليه وسلم: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي» رواه مسلم
مختارات