اعتماد الحساب أم رؤية الهلال
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي كل عام يتكرر الجدل حول ما يتعلق برؤية هلال شهر رمضان، ويتشعب هذا الجدل عبر وسائل الإعلام، ويدور بين عدد من الصحفيين والمثقفين، وبعض المتخصصين في الفلك، ويمتد هذا الجدل بين الجالية الإسلامية في الدول غير الإسلامية.
والحق أن هذه مسألة محسومة، يدرك العلماء بالشرع المطهر ما فيها من التيسير الكبير، ولو أن الناس رجعوا للعلماء وفهموا عنهم لما تكرر هذا الجدل.
ذلك أن مسألة رؤية الهلال وبناء الأحكام الشرعية عليها قد جاءت بتشريع رباني لا مجال لمعارضته بآراء البشر، قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189].
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا " يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين. وفي لفظ عند مسلم في عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا ـ ثم عقد إبهامه في الثالثة ـ فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين ".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غَبِيَ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: " فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يوماً ".
وقد جاءت النصوص الصحيحة المصرحة بالعمل بالرؤية في عشرات الأحاديث ومن طرق متعددة في الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم الحديثية.
فتبين بما تقدم من الأحاديث النبوية أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قد قطع الطريق على من أراد أن يطعن في هذا المنهج أويستبدله بالحسابات الفلكية وأنه قد رد عليه ما أراد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بعد إيراده قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) قال: فأخبر أنها مواقيت للناس، وهذا عامٌ في جميع أمورهم، وخص الحج بالذكر تمييزاً له، ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم، فجعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع أو التي ثبتت بشروط العبد، فما ثبت من هذه من هذه الأحكام الدينية ـ بشرع أو شرط ـ فالهلال ميقاتٌ له، وهذا يدخل فيه الصيام والحج ومدة الإيلاء والعدة وصوم الكفارة، وهذه الخمسة في القرآن. ثم شرع ابن تيمية في إيراد آياتها، وذكر أبواباً أخرى من المعاملات وغيرها مما يرتبط بالأهلة.
ثم قرر رحمه الله: أن حساب الأشهر والسنين معلق بالقمر ورؤيته، بينما الشمس لم يعلق بها شيء من ذلك، دلَّ على هذا قوله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] وقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [يونس: 5]، حيث إن قوله: (لِتَعْلَمُواْ) متعلق بقوله: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ) وإنما كانت المواقيت محددة بالقمر لأنه أمرٌ ظاهر بيِّن مرئي بالأبصار ويشترك فيه الناس جميعاً، ولهذا جاءت به شريعتنا الكاملة لتيسره للناس في كل زمان ومكان.
وبين الشيخ أيضاً أن الطريق لمعرفة طلوع الهلال هو الرؤية لا غيرها، وهذا ما تؤيده نصوص الوحيين، ويؤكده العقل الصحيح، أما الأدلة فذكرنا بعضها آنفاً، وأما العقل: فإن المحققين من أهل الحساب والفلك كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يُرى لا محالة، أو لا يُرى البتة على وجه مطرد، وإنما قد يتفق ذلك، أو لا يمكن بعض الأوقات، ولهذا كان المعتنون بهذا الفن من الأمم: الروم والهند والفرس والعرب وغيرهم مثل بطليموس الذي هو مقدَّم هؤلاء ومن بعدهم قبل الإسلام وبعده لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفاً واحداً، ولا حدُّوه كما حَدُّوا اجتماع القرصين، وإنما تكلم في ذلك بعضهم، ولكن أنكر عليهم ذلك الحذاق من علماء الفلك. وقد شنَّع الشيخ على دعاة اعتماد الحساب دون الرؤية، وعدَّ ذلك منهم أنه إدخال لشيء في الإسلام ليس منه. (ينظر: مجموع الفتاوى 25/126 ـ 201).
ثم إن أهل الإسلام يعلمون أن الله تعالى علم ما كان وما سيكون، ومن ذلك ما ييسره سبحانه من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم ومع ذلك قال سبحانه: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] ولم يأمر الناس بحسابٍ أو غيره.
ويعلم المسلمون أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق للخلق وأعلمهم بالله، وأنه لم يمت إلا وقد بلغ البلاغ المبين وأوضح للأمة ما يصلح لها في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، فبأي شيء أمرنا عند اشتباهنا في تمام الشهر أو نقصانه؟.
بيان ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: " فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ولم يقل: فسألوا أهل الحساب، ولم يعتبر ذلك مؤثراً في صحة عبادتهم، فالأمر واسعٌ، وسَّعه ويسَّره الرب سبحانه ورفع فيه الحرج عن الأمة، فله الحمد كُلُّه، وله الشكر كُلُّه.
ومما يحسن أن ينبه إليه في هذا المقام أن بعض أهل البدع لم يرتضوا هذا المسلك الشرعي، واستبدلوا به أموراً مبتدعةً من عندهم كالرجوع إلى أهل التسيير المبني على التنجيم، ومنهم من يبني على حساب أشهر سابقة، أو رمضان السابق إلى غير ذلك من المسالك، وقد نبه إليها وبين خطأها شيخ الإسلام ابن تيمية في الموضع المذكور آنفاً، ونبه لهذا أيضاً الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ في فتح الباري (4/127).
كما أن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية قد بحثت هذا الأمر منذ أمد وقرروا بالإجماع عدم اعتبار حساب النجوم في ثبوت الأهلة في المسائل الشرعية.
كما أن اللجنة الدائمة للإفتاء قد نظرت في عدد من المسائل حول هذه القضية، وقرروا أنه لا حرج على أهل كل بلد أن يعملوا برؤيتهم في بلدهم، وإن لم يتوافقوا مع البلاد الإسلامية الأخرى، ما داموا يصومون إما تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين بحسب الرؤية أو إكمال العدة، والأمر في ذلك واسع، وجرى عليه العمل منذ عصر الرسالة إلى اليوم وعلى مدى أربعة عشر قرناً.
أما المسلمون الذين يقيمون في البلاد غير الإسلامية فقد نصحهم أهل العلم من هيئة كبار العلماء في المملكة وغيرها بأن يحرصوا على الاتفاق بينهم من خلال مجالسهم الإدارية في المراكز الإسلامية وغيرها، بحيث يجتهدون في ترائي الهلال في البلاد التي يقيمون فيها، فإذا رآه ثقةٌ منهم أو أكثر صاموا بذلك وعمموا هذا على من يقطن معهم، وإن لم يروه أكملوا شعبان ثلاثين يوماً، هذا في دخول الشهر أما في خروجه فلا بد من شهادة عدلين برؤية هلال شوال، أو إكمال رمضان ثلاثين يوماً.
وبكل حال فالله قد رفع عنا الحرج، وشرع للمسلمين إما الرؤية أو إكمال العدة فلا يزالون يعملون بذلك حتى يلقوا ربهم. وهذا معلومٌ مقرر لدى أهل العلم.
نعم لو استُعين بالمراصد الفلكية في الرؤية فالأمر هنا أوسع، لكن لا يعتمد عليها ولا يكتفى بها استقلالاً، بل المعول على الرؤية الشرعية.
ولعل فيما تقدم إيراده مقنع لأهل الإسلام لأن يعملوا بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وشرعه في هذه المسألة وغيرها من أمور الحياة.
وما أحسن ما قاله أبو الزناد ـ رحمه الله ـ: إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بُدَّاً من اتباعها.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
مختارات