إشكالية نسيان العلم
بسم الله الرحمن الرحيم
أحد الأصدقاء كادت تندلق شفتاه من فرط التعجب وهو يروي حكايته مع العالم الفلاني وقوة استحضاره للمعارف التي قرأها والتي بَعُد عهده بها كفائدةٍ لطيفةٍ في مسألة جزئية ليست من صلب اهتماماته لكنه حينما يحتاجها تجري على خاطره دون عناء ويوردها لسانه بذلاقة لافتة..كان يقول: سألت الشيخ عن مسألة من مسائل العلم فأجابني ثم أحال الجواب إلى كتابٍ..هذا الكتاب كنت قرأته كاملا وهمشت على طرته الفوائد قبل أن أسأل الشيخ، ومع ذلك أصبحت تلك الفائدة التي ذكرها الشيخ مطمورةً أغرقها طوفان النسيان!
يتساءل صاحبي كيف يستطيع هذا العالم أن يتذكر من بين مقروءاته الهائلة فائدةً لطيفةً من بين السطور وبالذات حينما تكون من كتاب ليس من الكتب الأصول بالنسبة للعالم ونحو ذلك..؟!
وكثيرا ما أجد من يطرح أسئلة مشابهة؛ كمن يقول: أقرأ كثيرا ولا أستفيد فما الحل؟ ومن يقول: منذ إغلاقي للكتاب لا أذكر المعلومات التي بين دفتيه! ومن يقول هذه الفائدة سمعتها كثيرا لكن لا أستحضرها إذا أردتها إلخ..؛ وكلهم تتقوس حواجبهم وتنضم أشداقهم باندهاش كلما رأوا عالما تتدفق الفوائد من شفتيه بغزارة كما يتحدر الماء من صَبَب!
كان ببالي معنى يتردد أشبه ما يكون جوابًا للسؤال.. وهو أن بذور العلم عزيزة لا تنبت في غير أرضها، وأراضي المعرفة ليست " مشبَّكة " ولكن ثمنها باهظ، وحين تمتلك الأرضية العلمية لعلمٍ ما تستطيع أن تبني فوقها الأبراج العاجية من المعارف وشواهق المعلومات دونما عناء، فالمعارف بطبعها سريعة التناسل كثيرة التوالد ولكنها لا تتخلَّق خارج جدار الرَّحِم!
إن الأرضية العلمية التي أعنيها هي أصول المسائل في باب ما من أبواب العلم، وهي تلك التي ينفق طالب العلم لأجلها وجه النهار وآخره، ثم إذا منَّ الله عليه باستقرارها في صدره وثباتها في عقله؛ أصبحت مغناطيس جاذبا لمعادن المعلومات العابرة، لا يكاد ينسى منها شيء فـ " العلم كلما استقرت أصوله حول بابٍ ما؛ لانت فروعه "..
لدي قناعة تامة أن الفارق بين الناس في هذا الباب ليس متعلقا -دوما- بالفوارق الذهنية والقدرات العقلية، لذلك تجد بعض العوام يستقر في ذهنه من المعلومات في شؤون شتى أكثر عددا مما هو مستقر في ذهن بعض طلاب العلم، فتجد العامي مثلا يتحدث عن تفاصيل السيارات وأنواع المحركات وطرائق الصيانة ودقائق المكنات بشكل مدهش، وهذا يدل على أن الفارق ليس ذهنيا في الغالب، وتجد أيضا من العوام من يتقن لأول وهلة أسماء رجال القبائل والأقارب والأسر والبيوت والأنساب وما بينها من الأسباب ما يقارب ما يحفظه بعض المحدثين من أسماء رجال الرواية والإسناد، والباب واحد فكلاهما أسماء، لكن تفاوتت الاهتمامات!
سأضرب مثالا يقرِّب المقصود وإن كان لا يفي بنقل الصورة من كل زواياها؛ ثم سأذكر وسيلة من وسائل ضبط أصول العلم على سبيل الإشارة لا البسط..
لو قيل لأحد لم يسمع يوما ما بالمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد:
١- هناك مفكر اسمه ادوارد سعيد
٢- نصراني.
٣- عربي المولد.
٤- له كتاب تغطية الإسلام.
٥- كان عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني.
٦- له كتاب السيرة الذاتية وترجم باسم " خارج المكان ".
٧- مات بعد أن عانى من اللوكيميا.
فلن يبقى معه بعد أسبوع عن هذا المفكر -إن بقي- إلا اسمه!
لكن لو قيل لآخر لديه تصور دقيق عن إدوارد سعيد وقرأ له وعنه، ثم ذُكر له -ولو معلومةً عابرة- عنه أنه مثلا: كان موسيقارا! أو أن كتابَه الاستشراق له ترجمتان، إحداهما لعناني، والأخرى لأبو الديب.. صدقني نسيان هذه المعلومة بالنسبة له أصعب من تذكرها..!
هل أتيتُ بجديد؟
لا طبعا..فهذه هي نفسها فكرة التفقيه على قول واحد ثم الاطلاع على الفقه المقارن..؛ لأن المطالع لفقه المذاهب يبني على أسس موجودة ويضم النظير للنظير ولا يكاد يشكل عليه شيء بعد ضبط كتاب ما.. ولنابغة المغرب الموسوعي الإمام أبو عمر ابن عبدالبر في كتابه التمهيد إشارة لطيفة لمعنى ضبط الأصول واستذكار الفروع، فبعد أن أورد حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا، أَمْسَكَهَا. وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» تحدث عن ذهاب القرآن إن لم يتعاهد فكيف بغيره من العلوم ثم قال:
(وخيرالعلوم مَا ضُبِطَ أَصْلُهُ وَاسْتُذْكِرَ فَرْعُهُ وَقَادَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَدَلَّ عَلَى مَا يَرْضَاهُ) [التمهيد 14 / 134]
فالعقل بطبعه لا يقيم الأصل إلا بمكابدة وعناء ثم إذا استقرَّ الأصل؛ أقام عليه بنيان الفروع وربط بين المعلومات وضم النظير إلى النظير وقسم وفرز ورتب بطريقة تلقائية مدهشة لمن تأمل!
كان لدي بعضُ إيمانٍ بأن العلم " كلما كثر سهُلَ حفظه " وقادت بعضُ المسائل رقاب أخواتها داخل الذهن، وأن العالم كلما ضبطَ وعانى قدرا واسعا من المسائل وأتقن كثيرا من الأبواب أصبح يحفظ في ذلك الباب من مرَّةٍ ومرتين ونظرةٍ ونظرتين! ثم وجدت لأبي عثمان الجاحظ في رسائله تنظيرا لهذا المعنى نقله عن أبي بكر ابن الأصم؛ قال الجاحظ:
(ذكر أبو بكر ابن الأصم ابنَ المقفع فقال: ما رأيت شيئا إلا وقليله أخف من كثيره إلا العلم، فإنه كلما كثُر خفَّ حمله..) [الرسائل ٢ / ١٩٥].
نعم فهذا المعنى في ذكر خِــفَّة العلم إذا كَثُر هو أمثل التفسيرات لاستحضار العالم لدقائق العلم في أبوابٍ أتقن أصولها.. ولاشك أن ثمة تفسيرات أخرى عاضدة تتعلق بالقدرات الذاتية والطاقات العقلية وقوة الصبر والاحتمال! فمن التسطيح توحيد أسباب الظواهر القابلة للبسط والعد!
سأستبق السؤال الذي ربما يرد الآن عند هذا الموضع من المقال، وهي كيف يضبط طالب العلم أصولَه؟
في الحقيقة جواب هذا السؤال واسع الخطو طويل الذيل، لذا فلن أشير إلا لوسيلة واحدة من وسائل ضبط الأصول كان بعض العلماء قديما وحديثا حفيًا بها ومن جربها وجدَ ثمرتها يانعة، ولكنها كشأن بقية الوسائل في الطلب نجاحها رهين قدرة الطالب على الجلد والاحتمال، فأين من يصبر لموسم القطاف؟!
ألا وهي وسيلة " التلخيص والاختصار " وهذه الوسيلة من وسائل طلب العلم وضبطه كانت شائعة لدى العلماء في القديم، وهم يتفاوتون في مدى استعمالها، لكن كانت لبعضهم حفاوةٌ زائدة بها، وأذكر من أولئك مؤرخ الإسلام الإمام الذهبي رحمه الله، فيستغرب الناظر من كثرة مختصراته للكتب التي قام بها ساعات الطلب، وهو أثناء حديثه يشير إلى بعض مختصراته ويومئ أحيانا بذكر الباعث لهذا الاختصار، فحينما تحدث في سير أعلام النبلاء عن بعض مسائل الإيمان، قال:
(وهَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَبِيْرَةٌ جَلِيلَةٌ، قد صَنَّفَ فِيْهَا العُلَمَاءُ كُتُباً، وَجَمَعَ فِيْهَا الإِمَامُ أَبُو العَبَّاسِ شَيْخُنَا مُجَلَّداً حَافِلاً قَدِ اخْتَصَرْتُهُ) وحين تحدث عن كتاب المستدرك لأبي عبدالله الحاكم في السير قال: (وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ كِتَابٌ مُفِيْدٌ قَدِ اختصرتُهُ) وحين أراد الدخول في كتابه " ميزان الاعتدال " قال: (وصنف أبو الفرج ابن الجوزي كتابا كبيرا في ذلك كنت اختصرته أولا ثم ذيلت عليه ذيلا بعد ذيل) فكان رحمه الله كثير التلخيص للكتب حتى قال عنه مؤرخ مكة تقي الدين الفاسي: (وقل أن رأى كتابا لغيره إلا اختصره أو استدرك فيه أو انتقى منه)، وربما شاع اختصار الذهبي للكتاب ونسي الناسُ أصله، ومن ذلك ما قاله أبو الحجاج المزي عن الذهبي: (الشيخ شمس الدين إذا اختصر شيئا أذهبه) فاختلفوا هل أراد بـ " أذهبه ": أعدمه؛ أم حسَّنه بالذهب. قال الفاسي: الأول أقرب.
ولم يكن الذهبي وحده سالكا طريقة الاختصار في الطلب والتصنيف، فهذا ابن منظور -صاحب اللسان- يقول عنه الصفدي: (لا أعرف في الأدب وغيره كتابا مطولا إلا وقد اختصره)، ومن مقاصد الاختصار عند العلماء حذف الحشو والزائد والمكرر والاقتصار على ما يراه المختصر أصول العلم ليتسنى للناظر ضبطها ويسهل عليه الإحاطة بها، وقد صرح بعض العلماء بهذا المقصد، ومن ذلك ما ذكره محمد بن عبد الرحمن بن محمد الدندري لما اختصر " الملحة " نظما في النحو؛ قال في أول اختصاره:
وها أنا اخترت اختصار اللمحة *** أمنحه الطلاب فهو منحه
وفي الذي اختصرته الحشو سقط *** ليقرب الحفظ ويبعد الغلط
ومن المُدْرَكِ أن نمط الاختصار والتلخيص للكتب خلال التاريخ الإسلامي؛ لم يكن بالضرورة بقصد التحصيل، وإنما هو نمط من أنماط التأليف العريق في التراث، لكن وجد من أهل العلم قديما وحديثا من وجد في أسلوب التلخيص نفعا عظيما لنفسه حتى لا يكاد يعدل بها وسيلةً أخرى من وسائل الطلب، فالكتاب الذي تلخصه يعادل قراءتك له ثلاث مرات بل أزيَد، لأن الاختصار يأتي لاحقا بعد القراءة الأولى الفاحصة، ثم إذا انتهى الطالب من التلخيص أعاد النظر فيه –أي التلخيص- مرةً ومرتين وهذه النظرة تجمع أصول مسائل الملخص بإذن الله في القلب، فبعد هذا يصبح للطالب أرضية علمية وتذوق خاص للباب الذي لخَّصه وتكون له فيه ملكة قابلة للتخلُّق، وهنا بعد وقت من مراجعة التلخيص يصل لمرحلة استقرار الفوائد في الباب لأدنى نظرة، وليس بالضرورة أن يلخص الطالب كتابا كاملا؛ فربما لخَّص مسألةً من المسائل عقدية أو فقهية أو أصولية أو غير ذلك.. كانت مشكلةً عنده، وربما بنى تلخيصه للمسألة ابتداءً على كتابٍ بعينه هو عمدةٌ في هذه المسألة، ثم جمع الفوائد والإضافات والتلخيصات والاستدراكات التي لم يوردها صاحب الكتاب، ثم درس ملخصه، ثم أعاد النظر فيه بعد مدة من اختمار المسائل في الذهن، فسيكتشف أن بين يديه كتابا على وشك الولادة، وربما لم يكتب في تلك المسألة نحو هذا الكتاب الوليد! ومن أهل العلم من كان يشير إلى أنه عمد إلى اختصار موضع أو مسألة؛ كما ذكر النووي في تهذيب اللغات أنه عمد إلى تلخيص ما ذكره ابن عبدالبر في مسألة من المسائل فقال: (قد أطنب أعلام المحدثين فى إيضاح هذا، ومن أحسنهم له إيضاحًا الحافظ أبو عمر ابن عبد البر فى كتاب التمهيد فى شرح الموطأ، وقد لخصت مقاصد ما ذكره).
كل ما أردت أن أقوله في هذه الخاطرة العابرة أن كثيرا من الأذهان شديدة التقارب وأن غالب العقول بالغة التشابه، وإنما الفوارق بين الناس تدور في العادة حول تهيئة الأرضية العلمية ومقدار الصبر الذاتي ومستوى التجلد والاحتمال، فعلى طالب العلم أن يفتح الخزانة قبل أن يجمع الثروة!
مختارات