" القرآن يتحدَّى "
" القرآن يتحدَّى "
القرآن أنزله الذي خلق الإنسان، فكان المعجزة الخالدة، أنزله الله على صفوته من خلقه وإمام الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، ولم ينزله الله على ملك أو رئيس دولة أو زعيم من زعماء الأرض؛ وإنما أنزله على خاتم الأنبياء وإمامهم وأفضلهم، لذلك بقيت معجزة القرآن تتجدد وإعجازه يتجلَّى ولمعرضيه يتحدى في أسلوبه ومعانيه، ويشرق تأثيره في نفوس أهله وخاصته، تحدى به النبي الأمي العربي صلى الله عليه وسلم كلَّ خصومة المعارضين، فهزمهم بإذن الله فهبطوا، وهو في صعود مستمر؛ لأنه كلام الله وصفته الملازم لذاته الكريمة، أنزله الله جل شأنه على من شَرَّفه وعصمه واصطفاه ورفع ذكره واجتباه بنور وحيه.
بخلاف ما تُرَدِّدُه أبواقُ الإعلام وما تخلع على القائمين عليها، وما تجللهم به من نعوت وإطراءات ومحامد لم يوصف بها أنبياء الله ورسله من أمثال: فلسفة الثورة، والكتاب الأخضر، وأمثالهما التي روَّجت لها وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة من إذاعات وتلفاز وصحف ومجلات ودور نشر، وعقدت لها محاضرات وندوات يبثها الإعلام الصاخب في مدار أربع وعشرين ساعة دون انقطاع، ترفع من نُسبت إليهم إلى مقام الربوبية، وتصفهم بصفات الألوهية، إلا أنها لما كانت لا ترتكز على حقائق ثابتة؛ وإنما هي من صنع المحترفين المتزلِّفين، عاشت حينا من الدهر حياة عقيمة ثم ماتت موتًا أبديًا قبل موت أصحابها.
أما القرآن الكريم الذي اقتحم أقفال قلوب المؤمنين فما كان ليكون معجزة خالدة لولا أنه تنزيل ممن خلق الأرض والسموات العلا، نزل به الروح الأمين بلسان عربي مبين، تَحَفُّه العصمة ممن أنزله، وترعاه العناية ممن هو كلامه، ويشده التأييد ممن يعلم السر وأخفى، لم يقم له معاند إلا هزمه، ولا تحداه متحدٍ إلا ألجَمَه، ولا تطاوَلَ عليه متطاوِلٌ إلا دَقَّه وحطَّمه، وقد اعترف أَلَدُّ خصومه في زمنه ووقت نزوله (عتبة بن ربيعة) وهو من فصحاء العرب وأرباب البلاغة والبيان، وهو مِمَّنْ نَزَلَ القرآن بلغتهم فقال قولته المشهورة: والله لسمعت قولًا ما سمعت مثلَه قَطّ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، والله ليكونن لكلامه الذي سمعت نبأٌ عظيم.
تحدى الله به جميع الخلق من عرب وعجم، إنس وجان، طعن كفار مكة في صحة القرآن وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعلِّمه القرآنَ بشرٌ ! قال جل جلاله: " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ " [النحل: 103].
عندها أعلن القرآن عليهم حربَ التحدي فأعجز أهل الفصاحة والبيان بعبارات سهلة وفي الوقت نفسه محرجة، فبدا عجزُهم الوضيع أمام إعجاز القرآن الرفيع، وكأنه يقول لهم: إذا كان محمد إنما يعلمه بشر واحد، فاستعينوا أنتم بكل البشر، وليعلمكم كلُّ الخلق بمثل الذي عَلَّمَ به بشرٌ واحدٌ محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ قال عز وجل: " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا " [الإسراء: 88] إنه تَحَدٍّ رهيبٌ وإذلالٌ لِمَنْ أَخَذَتْهُم العزةُ بالإثم، وغمرهم الكبرياء، وليس ذلك التحدي لكفار قريش الذين أُنْزِلَ القرآن بلسانهم؛ وإنما تحدى به جميع المعاندين في القديم والحديث عربًا وعجمًا، وإنسًا وجنًا؛ لأنه نَزَلَ بِعِزَّةِ العزيز الحكيم، وأَيَّدَتْهُ قُوَّةُ الكبير المتعال.
ثم هو لم يَكْتَفِ أن تحدَّاهم بالقرآن كله؛ فعاد فتحدَّاهم بأن يأتوا بعشر سور فقط من مثل القرآن؛ حتى يُصَوِّرَ لهم ضعفَهم وقلةَ حيلتهم، فقال عز وجل: " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " [هود: 13] ثم استمر في تحديه لهم بالعَدِّ التَّنازلي؛ فبعد أن تحدَّاهم بالقرآن كلِّه بدأ عجزُهم وانهارت قُواهم، فخفَّف التحدي فأمرهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن ويستعينوا بكل من يشاؤون، فجبنوا وتنصَّلوا، ثم خَفَّف التحدي إلى أن يأتوا بسورة واحدة فقط من مثل هذا القرآن المجيد (لفظة (سورة) في الآية الكريمة مطلقة، فتعم كل سور القرآن عمومًا بدليًا وأقصر السور " سورة الكوثر " وهي ثلاث آيات قصيرة فقط) قال سبحانه وتعالى: " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " [البقرة: 23، 24] وحينما تَحَدَّاهم في الجولة الأخيرة بأن يأتوا بسورة واحدة ثم أقفل عليهم خطَّ الرَّجْعة بقوله: " فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا " بصيغة النفي الجازم " فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا " في الحال " وَلَنْ تَفْعَلُوا " في المستقبل، عندها خارت قُوَاهم وظهر عجزهم وتحطم كبرياؤهم، وفي آية سورة " يونس " يكرِّر التحدي لهم بأن يأتوا بسورة واحدة ويستعينوا على ذلك بكل مَنْ دون الله، فَبُهِتَ أهلُ الكفر والعناد؛ لأن الذي أنزله هو المهيمن على كلِّ مَنْ خَلَق.
قال جل جلاله: " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ " [يونس: 38، 39].
مختارات