" اللهم عليك به "
" اللهم عليك به "
قيض الله للسنة من يحفظها ويخدمها، أبلى شبابه وأفنى عمره من أجلها، وصرف وقته لها، فحفظه الله تعالى في سمعه وبصره ولسانه وقدمه ويده، وفي جميع شؤون حياته، وحفظ له دينه الذي هو عصمة أمره، وحفظ له آخرته التي إليها معاده.
ومن أعظم الناس خدمة للسنة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الذي تربى على حلقات القرآن منذ نعومة أظفاره، فحفظه عن ظهر قلب، ثم أخذ يتتبع مجالس العلماء فيجلس فيها ويسمع من أهلها، وأحب الحديث أعظم حب فحفظه وكتبه، وجمعه من مصادر كثيرة، وسأل عنه علماء كُثر، واهتم أعظم الاهتمام بصحة الحديث، فما كان يكتب حديثًا حتى يغتسل ويصلي ركعتين، وقد رزقه الله تعالى القبول في الأرض ونرجو له المحبة في السماء، فتلقت الأمة كتابه الصحيح في الحديث بالقبول، بل واعتبرته أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى.
وقد تعرض هذا الإمام لفتنة كما يفتن أمثاله زيادة في الإيمان، ومضاعفة في الأجر، ورفعة في الدرجة، وتأهيلاً للنفس حتى تصبر على ما هو أعظم من ذلك، وهذه الفتنة هي أن أمير خراسان خلف بن أحمد بن خالد حقد على الإمام البخاري أعظم حقد وتأججت في فؤاده نار الغضب ليفتك به إلا أنه يعلم مكانة الشيخ عند الناس وحبهم له، فعمل على مضايقته والإضرار به، فأخرجه من بلده الذي ولد فيه وتربى على ترابه «بخارى» وطرده عنها ليكون بعيدًا عن أهله، وبعيدًا عن عشيرته، وعن طلابه وأحبابه ومعارفه.
فحزن الإمام البخاري لذلك لأنها جناية ليس لها مبرر، ولأن معارفه الذين يتلقون عنه سيتأثرون بهذا الانقطاع، ويتأثر هو لقلة معارفه في البلد المخرج إليه، فلما غادر بلده رفع يديه إلى السماء في وقت خلوة غفل عنها الكثير ونامت فيها العيون وعجزت فيها القوى إلا قوة الله تعالى ثم أخذ يدعو ويقول: «اللهم عليك به فإنه لا يعجزك» وكأن لسان حاله يقول: أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي أنت ولييِّ من دون الناس، وناصري من دونهم وأنت القادر العظيم فاجعله عبرة لغيره، ومن حكمة الله تعالى أن جولة الباطل مرة، وأما الحق فجولته إلى قيام الساعة، استجاب الله تعالى دعوة هذه الإمام المظلوم ورفعها فوق الغمام وقال: لأنصرنك ولو بعد حين، فما مضى عليها إلا عدة أيام وإذا بهذا الأمير يطرد من الإمارة ويودع السجن وتوضع القيود في قدمه والأغلال في عنقه ويغرب عن أهله في سجن مظلم، كما غرب الإمام عن أهله وقومه، وصودرت أمواله، وأُركب على حمار يُطاف به على البلاد ليشهَّر به بعد تسويد وجهه والتحذير منه، وانقلبت الموازين وأصبح العزيز ذليلاً والذليل عزيزًا، واستمر معذبًا في السجن مدة طويلة حتى مات سنة ثلاث وسبعين ومائتين، قال الإمام ابن كثير: هذا جزاء من تعرض لأهل الحديث والسنن (البداية والنهاية نقلاً عن «اتق دعوة المظلوم»).
مختارات