" رفض الهدنة فأصبح أسيرًا "
" رفض الهدنة فأصبح أسيرًا "
قال ابن الأثير في تأريخه لأحداث سنة ثلاث وستين وأربعمائة:
وفي هذه السنة خرج أرمانوس ملك الروم في مائتي ألف من الروم والفرنج والغرب والروس والبحناق والكرج (
البجناق: البوشناق، كانوا سكان منطقة الفولغا شرقي روسية، ثم نزحوا إلى منطقة البوسنة والهرسك في يوغوسلافيا اليوم. والكرج: سكان جورجية، وعاصمتها اليوم تفليس) وغيرهم من طوائف تلك البلاد، فجاؤوا في تحمل كثير وزي عظيم، وقصدوا بلاد الإسلام، فوصلوا إلى ملازكرد من أعمال خلاط، فبلغ السلطان ألب أرسلان الخبر وهو بمدينة خُوي من أذربيجان، قد عاد من حلب، وسمع ما فيه ملك الروم من كثرة الجموع، فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو، فسير الأثقال مع زوجته ونظام الملك إلى همدان، وسار هو فيمن عنده من العساكر وهم خمسة عشر ألف فارس، وجدّ في السير وقال لهم: إنني أقاتل محتسبًا صابرًا، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملكشاه ولي عهدي، وساروا، فلما قارب العدو جعل له مقدمة، فصادفت مقدمته عند خلاط مقدم الروسية في نحو عشرة آلاف من الروم، فاقتتلوا، فانهزمت الروسية وأسر مقدمهم، وحمل إلى السلطان فجدع أنفه، وأنفذ بالسلب إلى نظام الملك، وأمره أن يرسله إلى بغداد، فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة، فقال: لا هدنة إلا بالري، فانزعج السلطان لذلك، فقال له إمامه وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.
فلما كانت تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما ههنا سلطان يأمر وينهي، وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل العسكر مثله، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.
وزحف إلى الروم وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل، وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاؤوا وأنزل الله نصره عليه، فانهزم الروم وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر ملك الروم.
فلما أحضر ضربه السلطان ألب أرسلان ثلاثة مقارع بيده، وقال له: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ وافعل ما تريد.
فقال السلطان: ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟
فقال: أفعل القبيح.
قال له: فما تظن أنني أفعل بك؟
قال: إما أن تقتلني، وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام، والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبًا عنك، قال: ما عزمت على غير هذا.
ففداه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وأن يرسل إليه عساكر الروم أي وقت طلبها، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم، واستقر الأمر على ذلك، وأنزله في خيمة، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها، فأطلق له جماعة من البطارقة، وخلع عليه من الغد.
فقال ملك الروم: أين جهة الخليفة؟ فدل عليها، فقام وكشف رأسه، وأومأ إلى الأرض بالخدمة، وهادنه السلطان خمسين سنة، وسيره إلى بلاده (في البداية والنهاية: وسيره إلى بلاده ومعه راية مكتوب عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله»)، وسير معه عسكرًا أوصلوه إلى مأمنه (بهجة المجالس لأبي عبد الله الأثري).
مختارات