تابع " نهاية الحجَّاج بن يوسف الثَّقَفيّ "
تابع " نهاية الحجَّاج بن يوسف الثَّقَفيّ "
مقتل سعيد بن جبير- رحمه الله- على يد الحجاج ثم نهايته بعده:
قال ابن جرير: وفي سنة 94هـ قتل الحجّاج بن يوسف سعيد بن جبير، وكان سبب ذلك أنَّ الحجَّاجَ كان قد جعله على نفقات الجند حين بَعَثَه مع ابن الأشعث إلى قتال رتبيل ملك التُّرك، فلما خلعه ابنُ الأشعث خلع معه سعيد بن جبير، فلما ظفر الحجَّاجُ بابن الأشعث وأصحابه هرب سعيد بن جبير إلى أصبهان، فكتب الحجَّاج إلى نائبها أن يبعثه إليه، فلما سمع بذلك سعيد هرب منها، ثم كان يعتمر في كل سنة ويحج، ثم إنَّه لجأ إلى مكة فأقام بها إلى أن وليها خالد بن عبد الله القسري، فأشار من أشار على سعيد بالهرب منها، فقال سعيد: والله لقد استحْيَيْتُ من الله؛ ممَّ أفر ولا مفرَّ من قَدَره؟ وتولى على المدينة عثمان بن حيَّان بدل عمر بن عبد العزيز، فجعل يبعث مَنْ بالمدينة من أصحاب ابن الأشعث من العراق إلى الحجَّاج في القيود، فتعلم منه خالد القسري فعين من عنده من مكة سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وعمرو بن دينار، وطلق بن حبيب.
ويقال: إنَّ الحجَّاجَ أرسل إلى الوليد يخبره أن بمكة أقواما من أهل الشقاق، فبعث خالد بهؤلاء إليه ثم عفا عن عطاء وعمرو بن دينار؛ لأنَّهما من أهل مكَّة، وبعث بأولئك الثَّلاثة؛ فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل، وأما مجاهد فحبس فما زال في السِّجن حتى مات الحجَّاج، وأما سعيد بن جبير فلما أوقف بين يدي الحجَّاج قال له: يا سعيد ألم أشركك في أمانتي ! ألم أستعملك، أفلم أفعل، ألم أفعل؟ كلُّ ذلك يقول: نعم حتى ظن من عنده أنه سيخلِّي سبيله، حتى قال له: فما حملك على الخروج عليّ وخلعت بيعة أمير المؤمنين؟ قال سعيد: إنَّ ابنَ الأشعث أخذ منِّي البيعةَ على ذلك وعزم عليّ فغضب عند ذلك الحجَّاج غضباً شديداً وانتفخ حتى سقط طرف ردائه عن منكبه، وقال له: ويحك ألم أقدم مكة فقتلتُ ابنَ الزُّبَيْر وأخذتُ بيعةَ أهلها وأخذتُ بيعتَك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: بلى قال: ثم قدمتُ الكوفةَ والياً على العراق فجدَّدتُ لأمير المؤمنين البيعةَ فأخذت بيعتَك له ثانيةً؟ قال: بلى ! قال فتنكث (فتحنث، فتنقض) بيعتين لأمير المؤمنين وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك؟ يا حرسي اضرب عنقه قال: فضربت عنقه فبدر رأسه عليه لاطئة صغيرة بيضاء.
وقد ذكر الواقدي نحو هذا، وقال: أما أعطيك مائة ألف؟ أما فعلت أما فعلت.
قال ابن جري ر: فحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل قال: سمعت خلف بن خليفة يذكر عن رجل قال: لما قتل الحجّاج سعيد بن جبير فندر رأسه هلَّلَ ثلاثاً؛ مرة يفصح بها، وفي الاثنتين يقول مثل ذلك لا يفصح بها.
وذكر أبو بكر الباهليُّ قال: سمعت أنسَ بن أبي شيخ يقول: لما أتى الحجَّاجُ بسعيد بن جبير قال: لعن ابن النَّصرانية– يعني خالد القسري، وكان هو الذي أرسل به من مكة- أما كنت أعرف مكانه؛ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد ما أخرجك عليَّ؟ فقال: أصلح الله الأمير؛ أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب أخرى فطابت نفسُ الحجَّاج وانطلق وجهه، ورجا الحجَّاج أن يتخلَّصَ من أمره، ثم عاوده في شيء فقال سعيد: إنَّما كانت بيعة في عنقي فغضب عند ذلك الحجاج فكان ما كان من قتله.
وذكر عتاب بن بشر عن سالم الأفطس قال: أتى الحجَّاج بسعيد بن جبير وهو يريد الرُّكوبَ وقد وضع إحدى رجليه في الغرز، فقال: والله لا أركب حتى تتبوأَ مقعدَك من النَّار، اضربوا عنقَه فضربت عنقه، قال: والتبس الحجَّاج في عقله مكانه، فجعل يقول: قيودنا قيودنا فظنوا أنه يريد القيود التي على سعيد، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود.
وقال محمد بن أبي حاتم: ثنا عبد الملك بن عبد الله بن خباب، قال: جيء بسعيد بن جبير إلى الحجَّاج فقال: كتبت إلى مصعب بن الزُّبير؟ فقال: بل كتبت إلى مصعب قال: لا والله لأقتلنَّك قال: إنِّي إذاً لسعيد كما سمَّتْني أمي قال: فقتله، فلم يلبث الحجَّاج بعده إلا أربعين يوماً، وكان إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ويقول: يا عدوَّ الله فيم قتلتني؟ فيقول الحجاج: مالي ولسعيد بن جبير، مالي ولسعيد بن جبير؟.
وقد ذكر أنَّ سعيدا قُتل في شعبان، وأن الحجاج مات بعده في رمضان، وقيل قبله بستة أشهر. وذكر عن الإمام أحمد أنه قال: قتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج– أو قال مفتقر- إلى علمه. ويقال: إنَّ الحجَّاجَ لم يسلط بعده على أحد.
تتمة: قال الذهبيُّ في سير أعلام النُّبَلاء (4/343) عند ترجمته للحجَّاج: " أهلكه اللهُ في رمضان سنة خمس وتسعين كهلاً، وكان ظلوما جبَّارا ناصبيا، خبيثا، سفَّاكا للدِّماء ". وذكر في (4/340) في ترجمة سعيد بن جبير أنَّ الحجَّاجَ وجد سعيداً في الكعبة وناساً منهم طلق بن حبيب، فسار بهم إلى العراق فقتلهم عن غير شيء تعلَّق عليهم به إلا العبادة، فلمَّا قتل سعيد بن جبير خرج منه دم كثير حتى راع الحجَّاج، فدعا طبيباً قال له: ما بال دم هذا كثير؟ فقال: إن أمنتني أخبرتك، فأمنه، قال: قتلته ونفسه معه. اهـ.
مختارات