تابع " نهــاية قـارون "
تابع " نهــاية قـارون "
لمَّا ذَكَرَ تعالى خروجَه في زينته واختياله فيها وفخرَه على قومه بها قال: " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ " كما روى البخاريُّ من حديث الزُّهريِّ عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجلٌ يَجُرُّ إزارَه إذ خُسف به فهو يَتَجَلْجَلُ في الأرض إلى يوم القيامة» ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد عن سالم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقد ذَكَرَ ابنُ عبَّاس والسُّدِّيُّ أنَّ قارون أعطى امرأةً بغيًّا مالاً على أن تقولَ لموسى - عليه السلام - وهو في ملأ من الناس: إنك فعلت بي كذا وكذا فيقال: إنها قالت له ذلك فأرعد من الفرق وصلى ركعتين، ثم أقبلَ عليها فاستحلفها من ذلك على ذلك وما حملك عليه؟ فذكرت أنَّ قارون هو الذي حَمَلَها على ذلك، واستغفرت وتابت إليه، فعند ذلك خرَّ موسى ساجداً ودعا الله على قارون، فأوحى اللهُ إليه: إنِّي قد أَمَرْتُ أن تطيعَك فيه فأمر موسى الأرضَ أن تبتلعَه ودارَه فكان ذلك، فالله أعلم.
وقد قيل: إنَّ قارون لما خرج على قومه في زينته مَرَّ بجحفله (جيشه) وبغاله وملابسه على مجلس موسى - عليه السلام - وهو يذكِّر قومَه بأيَّام الله، فلما رآه النَّاسُ انصرفت وجوهُ كثير من النَّاس ينظرون إليه، فدعا موسى - عليه السلام - فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: يا موسى، أما لئن كنتَ فضِّلتَ عليَّ بالنُّبوَّة فلقد فضلت عليك بالمال، ولئن: أدعو أنا فدعى قارون فلم يجب في موسى، فقال موسى: أدعو؟ قال: نعم فقال موسى: اللهمَّ مر الأرضَ فلتطعن اليوم، فأوحى الله إليه: إني قد فعلت فقال موسى: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، ثم إلى مناكبهم، ثم قال: أقبلي بكنوزهم وأموالهم فأقبلت بها، حتى نظروا إليها.
ثم أشار موسى بيده فقال: اذهبوا بني لاوي فاستوت بهم الأرض. وقد روي عن قتادة أنَّه قال: يخسف بهم كلَّ يوم قامة إلى يوم القيامة، وعن ابن عبَّاس أنَّه قال: خُسف بهم إلى الأرض السابعة. وقد ذكر كثيرٌ من المفسِّرين ههنا إسرائيليَّات كثيرة أضربنا عنها صفحاً وتركناها قصداً.
وقولُه تعالى: " فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ " لم يكن له ناصر من نفسه ولا من غيره؛ كما قال: " فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ " ولما حلَّ به ما حلَّ من الخسف وذهاب الأموال وخراب الدَّار وإهلاك النَّفس والأهل والعقار ندم مَن كان تَمَنَّى مثل ما أُوتي وشكروا الله تعالى الذي يدبِّر عبادَه بما يشاء من حُسْن التَّدْبير المخزون، ولهذا قالوا: " لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ " وقد قال قتادة: " ويكأن " بمعنى ألم تر أن، وهذا قول حسن من حيث المعنى والله أعلم.
ثم أخبر تعالى أنَّ " الدَّارَ الْآَخِرَةَ " وهي دارُ القرار، وهي الدَّار التي يغبط من أعطيها ويعزَّى مَنْ حُرمها؛ إنَّما هي مُعَدَّةٌ للذين لا يريدون عُلُوًّا في الأرض ولا فساداً؛ فالعُلُوُّ هو التَّكَبُّر والفخر، والأشر والبطر والفساد هو عمل المعاصي اللَّازمة والمتعدِّدة من أَخْذ أموال النَّاس وإفساد معايشهم والإساءة إليهم وعدم النُّصْح لهم، ثم قال تعالى: " وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ".
وقصَّةُ قارون هذه قد تكون قبل خروجهم من مصر؛ لقوله: فخسفنا به وبداره الأرض فإنَّ الدَّارَ ظاهرةٌ في البُنْيان، وقد تكون بعد ذلك في التيه وتكون الدَّارُ عبارةً عن المحلة التي تضرب فيها الخيام؛ كما قال عنترة:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحا دار عبلة
والله أعلم.
وقد ذكر الله تعالى مذمَّةَ قارون في غير ما آية من القرآن؛ قال الله: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ " [غافر: آية 34]، وقال تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان: " وَلَقَدْ جَاءَتهمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " [العنكبوت: آية 39] فالذي خسف به الأرض قارونُ كما تقدَّم، والذي أغرق فرعون وهامان وجنودهما أنَّهم كانوا خاطئين.
وقد قال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثنا كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: «مَنْ حافظ عليها كانت نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف». [انفرد به أحمد رحمه الله].
مختارات