" هكذا العلماء "
" هكذا العلماء "
قال الأوزاعي: لما قدم عبد الله بن علي الشام وفرغ من قتل بني أمية، جلس يومًا على سريره، ودعا أصحابه أربعة أصناف: معهم السيوف مسللة صنف، ومعهم الجزرة(أعمدة من حديد) صنف، ومعهم الأعمدة(السيوف التي لها شطيبة في متن واحد) صنف، ومعهم الكافركوب(الخشبة الغليظة القصيرة) صنف، ثم بعث إليَّ، فلما صرت بالباب أنزلوني عن دابتي، وأخذ اثنان بعضدي ثم أدخلوني بين الصفوف وأنا أتخطى القتلى – وكان يومئذ قتل نيفًا وسبعين بالكفاركوبات – حتى أقاموني بحيث يسمع كلامي، فسلمت عليه، فلم يرد، وأخذ ينكت بخيزرانة كانت في يده، ثم أشار بيده فأجلست على كرسي.
فقال لي: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير، قال: يا أوزاعي، ما ترى في ما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد؟ أجهادًا ورباطًا هو؟ فقلت: أصلح الله الأمير قد كان بيني وبين داود بن علي مودة، قال: لتخبرني، ففكرت ثم استسلمت للموت، فقلت: أيها الأمير سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمي يقول: سمعت علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» فنكت بالخيزرانة أكثر مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال: فما تقول في أموالهم؟ قلت: إن كانت في أيديهم حرامًا فهي حرامٌ عليك أيضًا، وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل عليك إلا بطريق شرعي.
فنكت أشد مما ينكت من قبل، ثم قال: يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية؟ فسألني مسألة رجل يريد أن يقتل رجلاً، فحرت، فقال: قد علمت من حيث حدث، أجب إلى ما سألتك عنه.
قلت: قد كان لهم عليك عهد، وإن كان ينبغي لك أن تفي لهم بالعهد الذي جعلته.
قال: ويحك اجعلني وإياهم لا عهد بيننا، فأجهشت نفسي وكرهت القتل فذكرت مقامي بين يدي الله فلفظتها.
فقلت: دماؤهم عليك حرامٌ، فغضب؛ وانتفخت أَوْداجُه واحمرت عيناه، فقال: ويحك ولم؟ فقلت: حدثني أخوك داود بن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بواحدة من ثلاث: الدم بالدم، والثيب الزاني، والمرتد عن الإسلام».
قال: إنك لتقول هذا؟! ونكت بالخيزرانة أشد من ذلك، قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، قال: ويحك أو ليس الأمر لنا ديانة؟ قلت: كيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي؟ قلت: لو أوصى إليه لما حكم الحكمين، فسكت وقد اجتمع غضبًا، فجعلت أتوقع رأسي يسقط بين يدي، ثم قال: ألا نوليك القضاء؟ فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون عليَّ في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤوني به من الإحسان.
فقال: كأنك تحب الانصراف، فقلت: إن ورائي حرمًا وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن وقلوبهن مشغولة بسببي، ونكس ونكست أنتظر، فأطلت ثم قلت: البول، فأشار بيده هكذا – أي اذهب – فقمت فجعلت لا أخطو خطوة إلا ظننت أن رأسي تقع عندها.
فخرجت فركبت وسرت غير بعيد فإذا برسوله ورائي، فنزلت، وقلت: قد بعث ليأخذ رأسي، أصلي ركعتين. فكبرت فجاء وأنا قائم أصلي، وإذا معه مائتا دينار، فقال: يقول لك الأمير: استنفق هذه، قال: ففرقتها قبل أن أدخل بيتي؛ وإنما أخذتها خوفًا.
ويُقال: إن الأمير عرض عليه الفطر عنده فأبى أن يفطر عنده(صفحات مضيئة من حياة السابقين).
مختارات