" دوّي الليالي الرمضانية "
" دوّي الليالي الرمضانية "
من الذكريات التي تنتاب خاطري بشكل عشوائي صورة تتراءى لي كثيراً من أحد مساءات رمضان..فمن المشاهد في ليالي رمضان، وخصوصاً في هذا العِقد الأخير، أن المساجد صارت تتفاوت كثيراً في توقيت صلاتي التراويح والتهجد بحسب ما يرتاح له أهل كل حي ويتوافقون عليه.. ولذلك فكثيراً ما تكون في منزلك قد انتهيت من الصلاة بينما تسمع بعض المساجد المجاورة ما زالوا في جوف صلاتهم..وهذا ما وقع لي ذات ليلةٍ تكاد ذكراها تتهدج في نفسي.. كنت في غرفتي الخاصة أعِدّ بعض الأوراق، وفي ثنايا انهماكي في هذه المهام.. تسرب من خلال النافذة صوت مسجد الشيخ القارئ خالد الشارخ، وهو مسجد تتلبد عليه وفود الشباب والفتيان من الأحياء المجاورة في شرق الرياض توقفت عن العمل وفتحت النافذة وكانت ليلة عليلة وكادت أذني أن تنخلع تجاه مصدر الصوت أظنها كانت آيات من سورة المائدة إن لم أكن واهماً والله إنني أكاد ألمس السكينة تتطامن فوق كل ذرةٍ حولي شعرت أن الهواء ليس كالهواء.. وأن السماء ليست السماء..هناك شيء ما أفلست قواميس الدنيا أن تمدني بعبارة أصف بها ذلك الإحساس..رباه.. أي شيء يفعله القرآن يا إلهي في النفوس البشرية..ومما يعبُر في بحر هذه الذكرى أنني أتذكر وأنا صغير أن أحد قريباتي المسنّات كانت إذا عادت من صلاة التراويح اتجهت إلى التلفاز تشاهد نقل صلاة التراويح من المسجد الحرام.. ولا أحصي كم شهدت دمعاتها تتلامع في محاجرها حين تتسمر أمام تلك الصفوف المهيبة المطرقة حول كعبة الله المشرفة والقرآن تتجاوب به منارات الحرم وسواريه..وفي الأيام التي تسبق دخول شهر رمضان يكثر فيها تبادل التهاني والدعوات (بلغنا الله وإياك رمضان، وفقنا الله وإياك لصيام رمضان وقيامه، أحببت أن أبارك لك قدوم الشهر الكريم، الخ..) حين رأيت بعض هذه التهاني دار في بالي أن أنظر كيف عرض الله لنا (رمضان)؟ في أي إطار وضع الله (شهر رمضان)؟ أو بمعنى آخر: (ما هي هوية رمضان في القرآن)؟ حين أخذت أتأمل الآيات القرآنية التي تعرضت لرمضان في القرآن، وجدته جاء في صيغتين، صيغة الشهر الكامل (رمضان)، وجاء في صيغة جزئية أي بعض أيامه فقط، وهي (ليلة القدر).
في الصيغة التي جاء فيها بذكر الشهر الكامل (رمضان) قال الله عنه ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185] فعرّفه الله لنا بأنه الظرف الزماني للقرآن.
وفي الصيغة التي أشير فيها لرمضان بصورة جزئية، وهي أحد لياليه، جاءت في موضعين، مرةً باسم (ليلة القدر) ومرةً باسم (الليلة المباركة)، فأما باسم ليلة القدر فيقول تعالى في مطلع سورة القدر ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1] وأما باسم الليلة المباركة فيقول تعالى في مطلع سورة الدخان ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3]. وفي كلا الموضعين ذكر الله هذه الليلة عبر علاقتها بالقرآن ! يا لربنا العجب.. في المواضع التي ذكر الله فيها رمضان، بصيغة الشهر الكامل وبصيغة الليالي الجزئية، تم تقديمه في إطار علاقته بالقرآن أي إشارة لخصوصية القرآن في رمضان أكثر من ذلك.. استعرض كل شهور السنة الفاضلة.. شهور الحج.. الأشهر الحرم.. لن تجد كثافة في الإشارة للقرآن كما تجده في علاقة القرآن برمضان.. بل ثمة أمر قد يكون أشد لفتاً للانتباه من ذلك، أنه ليس فقط إنزال القرآن اختار الله له رمضان، بل حتى (مراجعة القرآن) مع النبي صلى الله عليه وسلم اختار الله لها رمضان! فكان جبرائيل عليه السلام - وهو أعظم الملائكة لأنه اختص بنقل كلام الله - يعقد مع النبي صلى الله عليه وسلم مجالس مسائية في كل ليلة من رمضان لمراجعة القرآن، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: (كان جبريل يلقى النبي في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن) [البخاري، 4997] لماذا اختار الله تحديداً هذا الشهر - أيضاً - لمراجعة القرآن؟ أليس في هذا إلماحاً إلى أن الساعات الرمضانية هي أشرف الأزمان وأليقها بالقرآن؟ هل هناك لفت للانتباه لخصوصية القرآن في رمضان أكثر من هذه الإشارات في اختيار توقيت نزول القرآن، واختيار توقيت مراجعته؟ والحقيقة أن هذه المدارسة إذا أخذ يتخيلها الإنسان تستحوذ عليه المهابة.. من يتصور؟ مجلس ليلي رمضاني لمراجعة القرآن، طرفاه أعظم إنسان (محمد بن عبدالله) وأعظم ملَك (جبرائيل) وموضوع الدرس أعظم الكلام (كلام ملك الملوك).. يا ألله.. أي هيبة تقبض على النفوس بمجرد تخيل ذلك.. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يتأثر كثيراً بهذه المدارسة القرآنية الرمضانية مع جبرائيل، وكان الصحابة يرون أثرها أمامهم على شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان يقول ابن عباس كما في البخاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) [البخاري، 3220].
انظر كيف كان جود رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد بمدارسته القرآن مع جبريل، إذا كان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن ومع ذلك ينتفع بمدارسته، فكيف بالله عليكم ستكون حاجتنا نحن أصحاب القلوب التي أمرضتها الشهوات والشبهات..؟! أي حرمان أوقع فيه بعض المتثيقفة أنفسَهم حين أوهموا أنفسهم أنهم يعرفون القرآن وقرؤوه ولا حاجة لهم إلى استمرار تلاوته وتدبره ومدارسته، فكل ما في القرآن سبق أن اطلعوا عليه ! أشهر فعالية اجتماعية في شهر رمضان هي طبعاً (صلاة التراويح).. هل سألت نفسك يوماً ما هي الحكمة من صلاة التروايح؟ دعني أكون شفافاً معك فالحقيقة أنه لم يسبق لي أصلاً أن تساءلت هذا السؤال، ولكن كنت مرةً أطالع فتاوى محقق العلوم أبو العباس ابن تيمية فرأيته يقول رحمه الله: " بل من أجلِّ مقصود التراويح قراءة القرآن فيها، ليسمع المسلمون كلام الله " [الفتاوى 23/122].
سبحان من فتح على ذلك العقل الحراني في فهم أسرار الشريعة..وإذا تأمل المرء النسبة بين رمضان الذي هو وقت الصوم ووقت نزول القرآن، أدرك شيئاً من النسبة بين يوم الاثنين واستحباب صيام النفل فيه، وهو ما أشار له النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين قال " ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت، أو أنزل علي فيه " ). [مسلم، 2804].
فلاحظ بالله عليك هذا الخيط الرفيع بين كون شهر رمضان الذي يجب صومه هو شهر نزول القرآن، ويوم الاثنين الذي يستحب صومه هو يوم نزول القرآن.
هل من المعقول أن تكون هذه التوقيتات الزمنية لا تحمل دلالات شرعية ورسائل تضمينية؟ بل ومن الموافقات التاريخية العجيبة أن أشهر جهاد للسلف في القرآن كان فتنة الإمام الأحمد المعروفة في مسألة القرآن، وهذه الحادثة العقدية القرآنية وقعت في رمضان كما ذكر المؤرخون! قال الذهبي: " وفي رمضان كانت محنة الإمام أحمد في القرآن، وضرب بالسياط حتى زال عقله " [أعلام النبلاء: 10/292].
فسبحان من أنزل القرآن في رمضان، وابتلى أئمة السلف بالجهاد للقرآن في رمضان ! وهذا مجرد توافق تاريخي لكن فيه شيء لطيف مما تستطرفه النفوس..وإذا حاول المرء أن يتأمل في سر العلاقة بين رمضان والقرآن، أو أزمان الصيام والقرآن، فإنه يمكن أن تكون العلاقة أن الصيام يهذب النفس البشرية فتتهيأ لاستقبال القرآن، ففي أيام الصيام تكون النفس هادئة ساكنة بسبب ترك فضول الطعام..وهذا يعني أن من أعظم ما يعين على تدبر القرآن وفهمه التقلل من الفضول..مثل فضول الطعام، وفضول الخلطة مع الناس، وفضول النظر، وفضول السماع، وفضول تصفح الانترنت.. فكلما زالت حواجز الفضول تهاوت الحجب بين القلب والقرآن..ولذلك كان رمضان الذي يتقلص فيه فضول الطعام والشراب والنكاح بالصيام، ويتقلص فيه فضول الخلطة والكلام بالاعتكاف؛ هو شهر القرآن.
مختارات