طريق الفوز والنجاة - الجزء الاول
طريق الفوز والنجاة
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}... [الأحزاب: 71].
وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].
لا يمكن للإنسان أن يسعد في الدنيا والآخرة إلا بأصول يسير عليها، وسنن يهتدي بها، وقدوة صالحة يقتدي بها.
وهذا الإنسان خلقه ربه، وأنزله إلى الأرض، وأكرمه بإنزال كتبه عليه، وإرسال رسله إليه، ليعرف ربه ومولاه، ويعيش في الحياة وفق أمر من خلقه واجتباه، فيسعد في الدنيا والآخرة، ويفوز بالجنة، وينجو من النار.
لهذا لا بدَّ لهذا الإنسان ليصل إلى الكمال من تربية تغذي جسمه.. وتنمي عقله.. وتهذب أخلاقه.. وتزكي روحه.
وتربية الشيء هي القيام بتربيته وإنمائه وإصلاحه حتى يبلغ كماله، سواء كان من الكائنات الحية كالإنسان والحيوان، أو كان من المخلوقات النامية كالشجر والنبات.
فميادين التربية أربعة:
الإنسان.. والحيوان.. والأشجار.. والنبات.
وتربية الحيوانات والأشجار والنباتات تختلف باختلاف أنواعها، ولكل نوع منها طرق في تربيته خاصة به، ومربون مختصون.
وتربية الإنسان بشكل عام، والمسلم بشكل خاص، لها جوانب متعددة، وطرق مختلفة، وكلها متلقاة من مشكاة النبوة، يجمعها الإيمان بالله رباً.. وبالإسلام ديناً.. وبمحمد رسولاً.
وسعادة الإنسان وكماله متوقفان على حسن تربيته، وتربية الكمال البشري في الإنسان تتناول أربعة جوانب هي:
جسمه.. وعقله.. وخُلُقه.. وروحه.
فتربية الجسم ليبلغ الكمال في نمائه وصحته وبقائه تعتمد على إصلاح غذائه من طعام وشراب، وعلى نقاء الهواء الذي يتنفس به، والعناية بلباسه ومسكنه، ورياضة بدنه، واجتناب كل خبيث وفاسد من المأكولات والمشروبات كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172].
وقال سبحانه في شأن آدم (: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118، 119].
وتربية العقل ليصبح الإنسان ذا قدرة كافية على الفهم والتذكر، وإصدار الأحكام الصحيحة على ما يعقله ويراه من المعقولات والمحسوسات، تكون بالتعلم والدراسة والتجربة، والنظر في الكونيات والتأمل فيها، والنظر في الآيات القرآنية والتفكر فيها.
وأكثر ما ينفع العقل في هذه التربية العلوم النافعة المتلقاة عن الله ورسوله، وأكبر ما يضر بها المعقولات الباطلة، والخرافات الضالة.
والجسم والعقل بينهما ارتباط وثيق، فالعقل لا يكمل بدون كمال الجسم، ولا ينمو إلا بنمائه، فكلما تقدمت سن الطفل تقدم نماء العقل.
وإذا عاد الجسم بسبب الكبر إلى الضعف، عاد العقل كذلك إلى الضعف، فنماء العقل تابع لنماء الجسم، وكل عناية بالجسم هي عناية بالعقل، وتربية أحدهما تربية للآخر.
ومن هنا نجد أن الإسلام كما حرم كل ما يضر بالجسم من السموم والخبائث وغيرها، حرم كذلك كل ما يضر بالعقل كالخمر والمخدرات والحشيش وغيرها من الشرك والسحر، وكل ما يفسد العقل أو يضله، وما ذاك إلا للعناية بتربية العقل والمحافظة عليه.
أما تربية الخُلق، فالخُلق عَرَض من أعراض الروح البشرية، فإذا كان الروح سليماً كان الخلق سليماً، وإذا كان الروح مريضاً كانت الأخلاق مريضة رديئة.
فالخُلق مرآة تنعكس عليها صورة الروح البشري.
وقد اعتنى الإسلام بتربية الخلق الحسن في آيات وأحاديث كثيرة، ودعا الناس إلى التخلق بكل خلق جميل.
قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].
وقال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199].
وقال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلَاقِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد
وبين الروح والخلق ارتباط وثيق، ومن هنا فالعناية بتربية الخلق هي نفسها العناية بتربية الروح.
وتربية الروح من أشد أنواع التربية صعوبة، وأكثرها تعقيداً، لخفاء الروح، وعدم ظهورها، فهي تحتاج إلى معلمين ربانيين مختصين.
فكما أن الجسم يطرأ عليه المرض بسبب المؤثرات الخارجية فيعتل ويداوى بالأدوية فيشفى بإذن الله، فكذلك الروح يطرأ عليه المرض بسبب المؤثرات الخارجية، فيداوى بالمناسب من الأدوية الروحية التي هي العبادات الشرعية، فيشفى بإذن الله عزَّ وجلَّ.
وكما أن الجسم إذا مرض تظهر عليه أعراض المرض من صفرة الوجه وشحوبته، وضعف الجسم وهزاله، فيعجز عن القول والعمل، والتفكير والحركة.
فكذلك الروح إذا مرض تظهر عليه أعراض مرضه كالسرقة والخيانة والكذب والنفاق، وشرب الخمر، وارتكاب كبائر الإثم والفواحش.
وكما أن الجسم يتلوث بالأوساخ والأدران فيُغسل بالماء والصابون فينظف، فكذلك الروح يتلوث بالذنوب والمعاصي فيتطهر بالاستغفار والتوبة والندم، وفعل الأعمال الصالحة، فيعود إليه صفاؤه وطهره.
وكما أن بين الجسم والعقل ارتباط وثيق، فكذلك بين الروح والخلق ارتباط وثيق، ولا يكمل أحدهما بدون الآخر.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)}... [الجمعة: 2].
فالتزكية هي التربية الروحية والأخلاقية، فالروح يزكو بالعبادات وبمكارم الأخلاق، وتعليم الكتاب والحكمة هي التربية العقلية.
وسعادة الإنسان وكماله متوقفان على تربية جسمه وعقله، وأخلاقه وروحه.
وكما اهتم الإسلام بتربية البشر، فقد اعتنى أيضاً برجال التربية، وحث على احترامهم وتقديرهم، وفرض محبتهم، وأوجب طاعتهم فأعظم المربين، وسيد الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أوجب الله محبته.. وطاعته.. وحذر من معصيته.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أجْمَعِين» متفق عليه
وأوجب الله طاعته بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران: 132].
وحذر من معصيته بقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14].
والحلقة المفقودة في حياة المسلمين اليوم هي انعدام المربين القادرين أو قلتهم، مع أن وجودهم ضروري لكمال الأمة وسعادتها.
ومما يزيد في المحنة ويضاعف الألم أن الأمة الإسلامية لطول ما فقدت التربية الصحيحة قد فقدت الاستعداد النفسي لقبول التربية، ومن هنا فلا فائدة من وجود الدواء والأطباء إذا كان المريض يرفض التداوي به ويأباه، ومن هنا كان الخطر جسيماً، وزوال المرض عسيراً.
ولعل خير من يقوم بتهيئة الأمة لقبول التربية هم المربون الصالحون الصادقون، بما يوجهون به الأمة للاقتداء بخير القرون في العبادة.. والدعوة.. والتعليم.. وحسن الخلق.. وحسن المعاملات.. حسب ما ورد في كتاب ربهم.. وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.. وذلك بطريقتين: جماعية وفردية.
فالجماعية: هي أن يتعاون المسلمون فيما بينهم، ويعيدون للمسجد دوره، ويجتمعون فيه كل يوم، ويتشاورون في أعمال الدين، وكيف يؤدونها، وكيف يكونون سبباً لنشرها في العالم، وكيف يفرغون الأوقات ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم ليكون الدين كله لله، ويتحقق مراد الله من عباده، وبذلك يزيد إيمانهم، وتصلح أعمالهم، وتحسن أخلاقهم، ويكونون أمة يقتدى بهم.
ويختارون عالماً بالكتاب والسنة مقتدياً بسلف الأمة، ويسندون له أمر تعليمهم، وتربية عقولهم وأرواحهم وأخلاقهم، ويعاهدونه على السمع والطاعة، فيعلمهم الكتاب والسنة، ويزكيهم بالأخلاق والآداب الإسلامية.
وهذه الطريقة هي التي سلكها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه مدة حياته، فقد اتخذ دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة مجلساً له ولأصحابه يعلمهم ما يوحى إليه، ويربيهم بأوامر ربهم، ويعرفهم بعظمة ربهم ليكبروه، وبنعمه ليشكروه، وباليوم الآخر وما فيه ليتقوه.
ولما انتقل إلى المدينة - صلى الله عليه وسلم -، كان أول عمل قام به هو بناء مسجد قباء، حيث بناه وجمع المؤمنين من ذلك الحي فيه، وأخذ يعلمهم ويربيهم بما يزكي قلوبهم، ويصلح نفوسهم.
ولما دخل - صلى الله عليه وسلم - المدينة كان أول عمل قام به هو بناء المسجد النبوي، وجمع فيه المهاجرين والأنصار يصلي بهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، ويتشاور معهم في إقامة الدين، وبعث المعلمين والدعاة والمجاهدين إلى أقطار الأرض.
ويستقبل فيه الوفود، والراغبين في الإسلام، ويعلمهم ويكرمهم.
وما هي إلا أيام وشهور وإذا رجال ونساء يتخرجون من هذا المسجد، هم خير رجال ونساء في العالم، إيماناً وتقوى، وعلماً وحكمة، وإحساناً ورحمة.
وعنه عليه الصلاة والسلام أخذ هذه الطريقة التربوية أصحابه، فكانوا نماذج في كمال التربية الإسلامية، ربوا الأمم والشعوب التي فتحوا بلادها على الطهر والصفاء، والعزة والكرامة، والصدق والمحبة.
ولما مات أولئك المربون الصادقون أقفرت الدنيا، وأصابها الظلام، وحل بها الخراب والدمار إلا ما شاء ربك.
أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبر هذه الأمة قلوباً.. وأعمقها علماً.. وأقلها تكلفاً.. وأحسنها أخلاقاً.. وأصدقها حديثاً.. رضي الله عنهم ورضوا عنه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}... [التوبة: 100].
هذه هي الطريقة التربوية الجماعية النافعة، فإن تعذرت يصار في إصلاح النفس إلى الطريقة التربوية الفردية.
فمن أراد تزكية نفسه وتكميلها، فإن عليه أن يخطو في تربية نفسه خطوتين:
الأولى: أن يُلزم نفسه وإن كانت كارهة بالقيام بالفرائض الدينية والواجبات الشرعية، ويلزمها فوراً بترك كل ما نهى الله ورسوله عنه ويأخذها في الفعل والترك بالقوة والحزم.
ثم يأخذ في رياضتها على فعل نوافل العبادات المختلفة من صلاة وصيام وصدقة وغيرها، وعلى التحلي بمكارم الأخلاق، وجميل الآداب.
والخطوة الثانية: أن يبحث عن عبد صالح عالم بالكتاب والسنة، وسيرة سلف الأمة، بصير بعيوب النفس، خبير بأحوالها، ويطلب منه التعاون معه على البر والتقوى، وبذل النصيحة، وإعانته على تربية نفسه، وحملها على طاعة الله.
ويتعهد له بالطاعة الكاملة فيما يأمره وينهاه مما ورد في شرع الله ويصبر على ذلك، كما فعل موسى - صلى الله عليه وسلم - مع الخضر حين قال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)}... [الكهف: 66].
فقال الخضر لموسى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)} [الكهف: 67، 68].
فقال موسى - صلى الله عليه وسلم -: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)} [الكهف: 69].
إن الطريق إلى الله سُكَّته الإيمان والأعمال الصالحة، والطريق إلى غير الله سُكَّته الأموال والأشياء.
والعاقل يضحي بالغالي لما هو أغلى منه، وهو الإيمان والأعمال الصالحة، وعمارة الدار الآخرة.
والإيمان الحقيقي هو الذي يدفع المسلم لتقديم أوامر الله على كل شيء.
وكل ما نراه في العالم من انتشار الشرك والقتل والزنا، والظلم والجهل، وفشو المنكرات والفواحش، ومحاربة الإسلام وأهله، فتلك وأمثالها أعراض لا أمراض، فإن ضعف الجسم نتيجة وليس سبباً.
والعلاج الصحيح أن نعالج المرض الأصلي، الذي أدى إلى ظهور هذه الأعراض في المسلمين وغيرهم، ومن ثم تزول تلك الأعراض من نفسها، ويتم بناء الإنسان وفق مراد الله منه بالعلم والإيمان والتوحيد، وأحسن الأخلاق.
ويتحقق ذلك بثلاثة أمور:
الأول: إصلاح جهاز الإرسال، وذلك باختيار أهل الإيمان والتقوى من العلماء والدعاة والخطباء والوعاظ، ليتم تعليم وتوجيه الأمة وتربيتها بواسطتهم كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
الثاني: اختيار المادة المرسلة، وذلك بأن يتم توجيه وتعليم وتربية الأمة من مصدرين كاملين لا ثالث لهما، وهما كتاب الله وسنة رسوله، ويطرح ما سواهما من كتب البدع والأباطيل، لتنشأ الأمة على معرفة الحق والعمل به وترك ما سواه كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
الثالث: تصفية جهاز الاستقبال، وذلك بتنقيته مما يمنع وصول الصوت وقبوله من الهوى والشبهات والشهوات، فإذا صُفَّي ونُظِّف من ذلك سهل على الإنسان معرفة ربه ومعبوده وخالقه ورازقه، ثم استقبل الأحكام والأوامر الشرعية عن حب ومعرفة وإيمان، وتلذذ بأدائها، وسُرَّ بفعلها: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].
وسفينة الدين يجب المحافظة عليها؛ لئلا تغرق في بحار الجاهلية، والدين مسئولية الأمة جميعاً.
ترك الصلاة خرق في السفينة.. وترك الزكاة خرق في السفينة.. وترك الدعوة إلى الله خرق في السفينة.. وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خرق في السفنية.. وترك النصيحة خرق في السفينة.. ومخالفة أوامر الله ورسوله خرق في السفينة.
فاحذر أن تخرق السفينة، أو تسكت عمن يخرق السفينة، فإن لمن فعل ذلك خزي في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].
والمؤمنون هم لب العالم، وصفوة بني آدم، وقد وصفهم الله بصفات كريمة، إذا اتصف المسلم بها نال السعادة في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة وهم: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 20 - 24].
والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بيد الله وحده لا شريك له، والله عنده خزائن كل شيء، ويفعل ما يشاء بقدرته، ولا يحتاج إلى أحد، وهو سبحانه الذي جعل الفوز والفلاح لكل إنسان بامتثال أوامرالله على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالأنبياء والمرسلون كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أفلحوا هم وأتباعهم في الدنيا والآخرة مع قلة الأسباب، ونمرود وقارون وفرعون وأمثالهم خسروا في الدنيا والآخرة مع وجود أعظم الأسباب.
ومن يطع الله ورسوله في التوحيد والإيمان، ثم في الأوامر على اختلاف درجاتها ويجتنب ما نهى الله ورسوله عنه من الشرك ثم المعاصي والمحرمات على اختلاف درجاتها، واستقام على ذلك حتى يلقى ربه.
فهذا قد فاز بالجنة ونجا من النار كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13].
ومن كفر بالله وعصى الله ورسوله أدخله الله النار كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14].
ويدخل في اسم المعصية الكفر وما دونه من المعاصي.
فالله سبحانه رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله، ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب.
ومن عصى الله ورسوله معصية تامة فيها الشرك وما دونه دخل النار وخُلِّد فيها.
ومن اجتمع فيه طاعة ومعصية كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية، فالموحدون الذين لهم معاصي يعذبون في النار بقدر ذنوبهم، ثم يخرجهم الله إلى الجنة؛ لأن ما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود في النار.
وأنفع شيء للعبد في معاشه ومعاده تدبر القرآن، وجمع الفكر على معانيه وأحكامه وآدابه وعلومه.
فآيات الله القرآنية تُطْلِع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما وتبين له طرقهما وثمراتهما ومآل أهلهما.. وتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة في الدنيا والآخرة.. وتزكي عقله بالعلوم النافعة.. وتثبت قواعد الإيمان في قلبه.. وتريه صورة الدنيا الفانية والآخرة الباقية.. وتريه صورة الجنة والنار.. وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم.. وتعرفه بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعدله وإحسانه.. وتبين له ما يحبه الله ويرضاه.. وما يكرهه ويسخطه من الأقوال والأعمال.
وتُعرِّف العبد بالطريق الموصل إلى ربه.. وما له بعد القدوم عليه من الكرامة.
وتعرفه كذلك بالشيطان وما يدعو إليه.. والطريق الموصلة إليه.. وما لمن أطاعه من الإهانة والعذاب يوم القيامة.
فهذه الأمور الستة ضرورية للعبد معرفتها ومشاهدتها، فبها يتميز له الحق من الباطل في كل ما اختلف فيه العالم، فتريه الحق حقاً والباطل باطلاً، ويكون له بمعرفتها فرقان ونور يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه وانشراحاً في صدره.
فما أحسن تدبر القرآن، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، والعمل بسننه وأحكامه، والتفكر في معاني آياته: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29].
والدواء كله يدور على أصلين:
حمية من الضار.. وحفظ الصحة بتناول الطيبات.
فإذا وقع التخليط احتاج الإنسان إلى الاستفراغ الموافق، فمدار الطب على هذه القواعد الثلاث.
والحمية حميتان:
حمية عما يجلب المرض، وهذه حمية الأصحاء.
وحمية عما يزيد المرض، وهي حمية المرضى، فالمريض إذا احتمى وقف مرضه.
وكذلك الاستقامة تقوم على أصلين:
فعل الأوامر.. واجتناب النواهي.
فإذا قصر العبد في فعل الأوامر، وارتكب المناهي، احتاج مع هذا التخليط إلى الاستفراغ بالتوبة النصوح لتزول عنه ذنوبه، ويعود إلى حاله.
والله عزَّ وجلَّ أكرم هذه الأمة بهذا الدين، وجهد سيد المرسلين، فهي خير الأمم على الإطلاق، وخير الناس للناس.
فدينها أحسن الأديان كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}... [النساء: 125].
وكتابها أحسن الكتب كما قال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر: 23].
ورسولها سيد الخلق كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ» أخرجه مسلم (1).
والدعوة إلى الله أحسن أعمالها كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33].
وهم أحسن الأمم على الإطلاق كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110].
فلله الحمد والشكر حيث أكرم هذه الأمة بأحسن الأديان.. وأحسن الأقوال.. وأحسن الأعمال.. وأحسن الأخلاق.. وشرف هذه الأمة بأحسن الوظائف وأشرفها وهي الدعوة إلى الله كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
والله تبارك وتعالى أعطانا أعظم شيء في خزائنه وهو الإيمان والتوحيد، وطلب منا القيام بالأعمال الصالحة التي تصلح بها حياتنا في الدنيا والآخرة.
لكن العمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه، واليقين أن تعتقد أن جميع الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بيد الله وحده لا شريك له.
والتائه الضال إذا طلعت الشمس عرف الطريق وميز الحجر من الذهب، والحية من الحبل، وكذا إذا جاء نور الإيمان ميز الإنسان الحق من الباطل، بين الدنيا والآخرة، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ورأى كل شيء على حقيقته، وقدم ما يحبه الرب على ما تحبه النفس.
والقلب إذا زاد فيه نور الإيمان أناب إلى الله، وأحب الطاعات وكره المعاصي.
والإيمان يزيد بالطاعات، والدعوة إلى الله، وبالدعوة تنزل الهداية على الخلق، لكن الباطل لا ينكسر إلا بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله.
والإيمان والتوحيد والعبادة حق الله على العباد.. فينبغي تذكيرهم دائماً بهذا الحق جميعاً.. ليؤدوا هذه الأعمال والوظائف لله رب العالمين كما تؤديها جميع الكائنات والمخلوقات لله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}... [الحج: 18].
مختارات