التوبه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام، من ألزم لوازم الإيمان التوبة إلى الله، ذلك لأن المؤمن مذنب تواب، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى أودع في كيانه شيئاً من الأرض، وشيئاً من السماء، فركب من شهوة وعقل، فحينما تسمو شهوته على عقله يحتاج إلى التوبة، وحينما يسمو عقله على شهوته يحتاج إلى الشكر، ولو تصورنا ديناً من دون توبة لوجدت تسعة وتسعين بالمئة من الناس إلى النار، لأنه إذا ارتكب الإنسان ذنباً بحسب ما أودع الله فيه من شهوات، وباب التوبة مغلق، فحينما ييئس من التوبة يرتكب أكبر الآثام، لذلك أرجى آية في القرآن الكريم:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾
(سورة الزمر)
وليس أبلغ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر لنا قصة أعرابي ارتحل ناقته، وعليها طعامه وشرابه ليقطع بها مفازة خطيرة، في منتصف المفازة الصحراء جلس ليستريح أخذته سنة من النوم، استيقظ فلم يجد الناقة، أيقن مئة بالمئة أنه هالك لا محالة، فبكى، ثم بكى، حتى أدركته سنة من النوم أخرى، فاستيقظ، فرأى الناقة فاختل توازنه، من شدة الفرح قال: يا رب، أنا ربك، وأنت عبدي، هل هناك من صورة أبلغ ردت إليه روحه.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَالْتَمَسَهَا حَتَّى إِذَا أَعْيَى تَسَجَّى بِثَوْبِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعَ وَجْبَةَ الرَّاحِلَةِ حَيْثُ فَقَدَهَا، فَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا هُوَ بِرَاحِلَتِهِ)
(سنن ابن ماجة)
مهما بلغت ذنوبك لو بلغت عنان السماء، ثم جئته تائباً غفرها لك ولا يبالي، باب التوبة مفتوح على مصارعه، لكن لئلا نقع في أوهام قاتلة الله عز وجل في أكثر من خمس آيات، ولعلها ثمانية آيات يقول:
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) ﴾
(سورة النحل)
غفور إذا أقلعت عن الذنب فوراً، وإذا ندمت، وأصلحت، وإذا عزمت على ألاّ تقع في الذنب:
﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) ﴾
ولو تتبعتم آيات التوبة:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) ﴾
(سورة الحجر)
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) ﴾
التوبة مقبولة بشرط أن الإقلاع الفوري عن الذنب.
ثانياً: العزم على ألاّ أعود إليه.
ثالثاً: الإصلاح فيما مضى، في حقوق تجاوزات ديون هذه كلها ينبغي أن تؤدى، لذلك العلماء وجدوا أن للتوبة أركان ثلاثة: الركن الأول العلم، والثاني الحال، والثالث: العمل، في ركن علمي، وركن نفسي، وركن سلوكي، العلم ما لم تطلب العلم لا تكتشف أخطاءك، تجد الإنسان غارقًا في المعاصي الكبرى الصارخة، كالقتل، والسرقة، والزنى معروفة، لكن في التعامل اليومي قد يقع في الربا، وهو لا يشعر.
أوضح مثل: يأتيك من يقول: هل تشاركني في شراء هذا البيت ولك أجرة؟ جيد !! البيت ثمنه عشرة ملايين، ومطلوب منك خمسة ملايين، ولهذا البيت أجرة، فأنت كلمة أجرة وشريك كلها كلمات شرعية، أنت حينما تريد مبلغك بالتمام والكمال بعد حين فهذا الذي أخذته أجراً يعد ربا، أما إذا كان الموضوع مفتوحًا بعد سنتين الأسعار هبطت، أو ارتفعت، إذا كان يمكن أن يقيم البيت تقييمًا جديدًا بعد سنتين هذه أجرة، الغرم بالغنم، أما إذا كنت ضامناً لمالك مئة في المئة، ولا علاقة لك بهبوط الأسعار أو بارتفاعها، ولا بالكوارث لو استملك البيت فأنت تردي خمسة ملايين، هذا هو الربا بعينه، فلذلك من دخل السوق من دون فقه أكل الربا، شاء أم أبى، فمتى تكتشف أخطاءك؟ حينما تطلب العلم، وأوضح مثل: لو كلفنا إنسانًا ضعيفًا في اللغة العربية أن يفحص طالبًا في هذه المادة، وقال: اقرأ هذه الصفحة - الذي قرأ الصفحة ارتكب ثمانية وعشرين خطأ، لأن الفاحص ضعيف في اللغة يقول له: جيد، علامة تامة، أما الخبير باللغة فيكشف الأخطاء، ما لم تكن خبيراً في الأمر والنهي فلا تعرف ما إذا كنت عاصياً أو مطيعاً، البيوع فيها منزلقات، الشراء فيه منزلقات، واستثمار المال العلاقات الاجتماعية.
فلذلك أيها الإخوة، قضية التوبة تحتاج إلى علم.
أوضحُ مثلٍ، هناك أمراض لا أعراض لها أبداً مثل كالضغط، وفي حالات نادرة فيها أعراض في الرأس، أما الضغط قد يرتفع لاثنين وعشرين، وثلاثة وعشرين، وثمانية وعشرين، وأنت لا تشعر، أقول لك: متى تعالج نفسك من ارتفاع الضغط؟ حينما تعلم أنه معك ضغط مرتفع، ومتى تتوب من ذنب؟ حينما تعلم أنه ذنب، فإن لم تعلم أنه ذنب لن تتوب منه.
لذلك لا يمكن لإنسان أن يحقق التوبة، والله عز وجل يقول:
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾
(سورة النساء)
إلا إذا عرفت ما لك وما عليك، أزواج كثيرون يرتكبون بحق زوجاتهم أخطاء كبيرة جداً قد يقول لك أنا لا أعلم لك حق وعليم واجب !
ارتكبت مرة في أميركا جريمة، في أثناء التحقيق والمحاكمة قالت امرأة: هو أناني، ينصرف قبل أن أقضي حاجتي، فحقدت عليه إلى أن قتلته، فهناك قضايا حتى في العلاقات الزوجية، حتى في تربية الأولاد، حتى في كسب الأموال، وإنفاقها، والعلاقات العامة، وفي علاقتك مع الله عز وجل الإنسان من دون علم كائن يخبط خبط عشواء، أكثر الناس قد يترك صلاته، يقول: العمل عبادة، أليس كذلك؟ !!! يتلبس، العمل عبادة، ينبغي أن تكون الصلوات الخمس الأولوية في عملك، فمن أجل عمل قد يتعامل بمادة محرمة، وهو لا يدري لذلك التوبة تحتاج إلى علم، حينما تجلس في المسجد على ركبتيك تتعلم الأحكام، هذا وقت مستثمر، وليس مستهلكاً، لأن أقل خطأ مع الله مدمِّر، الله عز وجل يعاقب الإنسان بجهله فقط، في القانون يقال: لا جهل في القانون، والمغفل لا يحميه القانون، فلذلك: ما لم تطلب العلم فلن تكتشف أخطاءك، فالتوبة تحتاج إلى علم، الآن تحتاج إلى حال، عَنِ ابْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(النَّدَمُ تَوْبَةٌ)
(سنن ابن ماجة)
بالضبط، وأنت تمشي في بستان وجدت ثعبانًا، لو أنك لم تقلق إطلاقاً، وبقيت هادئًا ومرتاحًا، تترنم ببعض الأبيات، معنى ذلك أنك لم ترَ الثعبان إطلاقاً، لو رأيته لخرجت من جلدك، وصرخت لوليت هارباً، فإنسان يعرف أنه مذنب، ومع الذنب عقاب، وهو مرتاح هذا مستحيل، فأنت حينما ترى الثعبان فهناك ثلاث حالات، حالة إدراك، وحالة اضطراب، وحالة سلوك، إن أدركت أنه ثعبان تشعر بخوف واضطراب شديدين، هذا الخوف والاضطراب يحملك على أن تغادر، وتبتعد عنه كثيراً، لذلك قالوا: الإنسان في تعامله مع المحيط الخارجي يحكمه قانون إدراك انفعال سلوك.
يوجد مثل آخر أستخدمه للتوضيح: واحد قال لك: على كتفك من الجهة الخلفية عقرب ! فنبهك أنت بقيت هادئًا جداً، والتفت نحوه، وابتسمت وقلت له: أنا شاكر لك لهذه الملاحظة، وأسأل الله جل جلاله أن يعينني على أن أشكرك عليها في المستقبل !! معنى ذلك أنه ما سمع ما قلت له إطلاقاً، لو أنه فهم ما قلت لاضطرب، وقفز، وخلع معطفه، وصرخ أحياناً فما لم تنفعل لمعصية فأنت لا تعرف أبعاد هذه المعصية.
تجده يتعامل بالربا وهو مرتاح، هذا لم يقرأ القرآن:
﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
(سورة البقرة)
ولا يعلم أن المرابي ماله ينتهي إلى المحق.
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
(سورة البقرة)
أخ في بلد آخر له محل تجاري في أوجه شارع، لا يوجد أعلى من هذا المستوى، أخذ قروضًا، فلما تراكمت الفوائد اضطر أن يبيع المحل ليسدد هذه الفوائد، الله عز وجل قال:
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
فأنت ما لم تعلم حقائق الشرع لا تكتشف الخطأ، فإذا اكتشفت الخطأ، وأنت مؤمن بالله مؤمن بوعده ووعيده ينبغي أن تضطرب، لذلك النبي الكريم اختصر موضوع التوبة بكلمة واحدة قال:
(النَّدَمُ تَوْبَةٌ)
فالعلماء شرحوا ذلك فقالوا: الندم لا بد أن يسبقه علم، ولا بد من أن يعقبه عمل، علم وعمل، والإنسان حينما يتوب من ذنبه، ولا أبالغ أنه يشعر كأن جبالاً أزيحت عن صدره، لذلك حال التائب حال لا يصدق من الفرح، هو خفيف، إلا أنه حينما تقع في الذنب مرة ثانية نقول لك: أن تتوب مرة ثانية، لكن التوبة الثانية أصعب، والثالثة أصعب وأصعب، فكلما تكرر الذنب نفسه وجد صعوبة الإنسان في التوبة.
لذلك في المرة الثانية يفضل أن تدعم التوبة بصدقة،
(اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحوها وخالق الناس بخلق حسن)
فلا بد من دعم التوبة الثانية بعمل طيب، من صدقة أو صيام أو خدمة، لكن يجب أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يتوب علينا.
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾
ويجب أن تعلم ثانية أن الله يحب التوابين، أنت حينما تتوب فأنت حبيب الله، وما لنا غير الله شئنا أم أبينا.
مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، للمليون، لكن من باب التناصح كل مرة إذا أذنبتَ الذنب نفسه كانت التوبة أصعب من التي تسبقها، لكن بالنهاية لا بد من أن نتوب، وليس لنا إلا الله.
أيها ا لإخوة: مرة ثانية أوجه هذه الملاحظة: لو أن إنسانا ما أعجبه صيامه، وكان صيامه دون طموحه ماذا يفعل؟ نقول له: العام كله رمضان، استأنف التوبة، لذلك في مدارج السالكين هناك منزلة اسمها استئناف التوبة، التوبة ليست مرة واحدة، المؤمن مذنب تواب، كلما زلت قدمه تاب إلى الله عز وجل، والله عز وجل يعلم ما إذا كان هذا الذنب سببه غفلة، وغلبة، أو كبر، وعناد، الذي يرتكب المعاصي كبراً وعناداً، والذي يستنكف أن يعبد الله، ويأبى أن يعبد الله هذا إنسان لا توبة له، أما حينما يغلب عليك شيء، تغلبك الشهوة، ثم تستغفر، وتتوب تشعر أن الطريق لله سالك، وأن الله سيقبله.
أيها الإخوة الكرام: الندم توبة، والمؤمن مذنب تواب.
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾
(لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ)
والحمد لله رب العالمين
مختارات