فقه التقوى (٢)
وإذا عرف هذا فالصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان:
الأول: من صرف ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها، وإن لم يكونوا خالين من أصلها، ولكن هممهم مصروفة إلى الاستكثار من الأعمال الصالحة.
الثاني: من صرف ما فضل من الفرائض والسنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم، وعكوفها على الله وحده، والجمعية عليه، وحفظ الخواطر والإرادات معه.
وجعلوا قوة تعبدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة للرب، والخوف والرجاء، والتوكل والإنابة، والتعظيم والحمد، ورأوا أن أيسر الواردات على قلوبهم من الله أحب إليهم من كثير من التطوعات البدنية.
فإذا حصل لأحدهم وارد أنس، أو حب، أو انكسار، أو ذل، لم يستبدل به شيئاً سواه البتة، إلا أن يجيء الأمر الواجب فيبادر إليه بذلك الوارد إن أمكنه وإلا بادر إلى الأمر ولو ذهب الوارد؛ فإذا جاءت النوافل فإن أمكن القيام إليها فذاك، وإلا نظر في الأرجح والأحب إلى الله:
هل هو القيام إلى تلك النافلة ولو ذهب وارده كإغاثة الملهوف، وإرشاد الضال، وجبر المكسور، واستفادة إيمان ونحو ذلك.
فهاهنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة.
ومتى قدمها لله وتقرباً إليه فإنه يرد عليه ما فات من وارده أقوى مما كان.
وإذا كان الوارد أرجح من النافلة فالحزم له الاستمرار في وارده حتى يتوارى عنه، فإنه يفوت والنافلة لا تفوت.
وهذا موضع يحتاج إلى فضل فقه في الطريق، ومراتب الأعمال، وتقديم الأهم فالمهم و «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّين» متفق عليه (١).
وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - مصالح الدنيا والآخرة في قوله: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» أخرجه ابن ماجه (٢).
فنعيم الآخرة ولذاتها إنما ينال بتقوى الله عزَّ وجلَّ.
وراحة القلب والبدن، والسلامة من التعب والكد في طلب الدنيا، إنما ينال بالإجمال في الطلب.
فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة.
ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها.
وتقوى الله عزَّ وجلَّ تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، ولهذا أمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «اتَّقِ اللهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» أخرجه أحمد والترمذي (٣).
فتقوى الله توجب للعبد محبة الله له، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته، والتقصير في فعل الطاعات، أو فعل السيئات، يمحوه اتباع ذلك بفعل الحسنات.
والعبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، وأقرب الوسائل إلى الله ملازمة السنة، والوقوف معها في الظاهر والباطن، ودوام الافتقار إلى الله، والتضرع إليه، وإرادة وجهه وحده بالنيات والأقوال والأعمال.
ومن أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره وإجلاله وتقواه.
ومن السفاهة والجهل أن توقر المخلوق وتجله أن يراك، في حال لا توقر الله أن يراك عليها، وهذا من أعظم الجهل، فمن لم يعرف الله لم يوقره كما قال سبحانه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣)} [نوح: ١٣].
ولا بدَّ لكل إنسان من أمرين:
أحدهما: طاعة الله ورسوله، بفعل المأمور وترك المحظور.
الثاني: الصبر على ما يصيبه من القضاء المقدور.
فالأول هو التقوى، والثاني هو الصبر، وقد جمعهما الله في قوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠)} [يوسف: ٩٠].
وقد خلق الله في كل نفس ثلاث قوى:
قوة البذل والإعطاء.
وقوة الكف والامتناع.
وقوة الإدراك والفهم.
فمن وفقه الله للإيمان وهداه استعملها فيما يحب الله، ويسره لكل يسرى في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧)} [الليل: ٥ - ٧].
ومن خذله ولم يرد له الهداية استعملها فيما يبغض الله، فنال بسبب ذلك العقوبة كما قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)} [الليل: ٨ - ١٠].
وأبواب البركات تفتح مع كمال الإيمان، وكمال التقوى كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)} [الأعراف: ٩٦].
والبركات الإلهية لا يحصيها إلا الله.
ومنها البركة في العمر.
والبركة في الرزق.
والبركة في الوقت.
والبركة في الأهل والأولاد.
والبركة في الأموال.
والبركة في الأعمال.
ومنها قضاء الحاجات بدون الأسباب: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: ٢، ٣].
ومنها حصول الأموال بدون جهد، وحصول الأشياء بدون تعب، وحصول الأرزاق مباشرة من الرب، كما قال الله عن مريم: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧)} [آل عمران: ٣٧].
والآن أغلقت أبواب البركات، وحرم منها أكثر المسلمين، بسبب ضعف الإيمان، ونقص التقوى.
نسينا الله فنزع منا كل شيء، والذي لم ينزع ذهبت بركته.
نزع منا حب كلام الله، وحب كلام رسوله، وحب عبادة الله، وحب طاعته، وحب أوليائه، وحب أوامره، وحب دينه.
فارتفعت الخيرات والبركات؛ لكثرة المعاصي والمخالفات.
وقيمة الإنسان بصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه، وقيمة كل شيء ترتفع بقدر ما فيه من الصفات.
وكذلك قيمة الإنسان ترتفع عند الله بقدر ما فيه من الصفات الإيمانية، وبقدر ما يقوم به من الأعمال الصالحة، وما يتحلى به من الأخلاق العالية.
وبنو آدم كثيرون لا يحصيهم إلا الله، ولكن الله اشترى منهم أحسنهم وأكملهم وأفضلهم وهم المؤمنون.
فهؤلاء خير الناس، وأفضل الناس، وأكرم الناس، وأغلى الناس، والسلعة إذا خفي عليك قدرها، فانظر المشتري لها من هو؟.
وانظر إلى الثمن المبذول فيها؟، وانظر إلى من جرى على يده عقد التبايع؟
فالسلعة: النفس المؤمنة، والمشتري لها: هو الله سبحانه، وثمنها: جنات النعيم.
والسفير في هذا العقد: خير خلقه من الملائكة وأكرمهم وهو جبريل، وخير خلقه من البشر وأكرمهم عليه وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أعلن الله هذا العقد للبشرية كافة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)} [التوبة: ١١١].
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٧١)، ومسلم برقم (١٠٣٧).
(٢) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (٢١٤٤)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (١٧٤٣).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (٢٦٠٧).
(٣) حسن: أخرجه أحمد برقم (٢١٣٥٤).
وأخرجه الترمذي برقم (١٩٨٧)، صحيح سنن الترمذي رقم (١٦١٨).
مختارات