في رحاب قوله تعالى.. (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ)
الحمد لله معز الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره ومزيد النعم بشكره ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله فجعل العاقبة للمتقين بفضله. والصلاة والسلام على من كان يظلله الغمام وتسلم عليه الأحجار والأشجار، أما بعد:
ففي زمن الفتن التي لحقت بالأمة الإسلامية و حاولت أن تبعدها عن منهج ربها، وأن تطويها تحت جناح الذل والهيمنة الفكرية والاقتصادية والحربية، وركز أعداء الأمة على محاربة الدعاة وبأشد الطرق، فأخدوهم بالليونة تارة و بالقوة تارة أخرى وهذا ما تصوره الآيات، التي نحاول أن نقف على فهم لها من خلال كتاب الله. ثم لنطلع من خلالها على وسائل الثبات على الحق، لتعصمنا من الركون إلى الأعداء و بالتالي تعصمنا من سخط الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِين ﴾ [النساء: 144].
فنسأل الله لك أخي الحبيب أن تخرج من هذا البحث بأجمل الثمرات فيه.
البحث حول تفسير لقوله تعالى: ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتّخَذُوكَ خَلِيلاً ﴿73 ﴾ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ﴿74 ﴾ إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ﴾ [الإسراء:74-75]، ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونكَ ﴾، ﴿ وَإِذاً لاتَخَذُوكَ خَلِيلا ﴾، ﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ ﴾، ﴿ إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ﴾
بداية يجب التنبيه على أكثر من نقطة:
أن أسباب النزول لهذه الآية قد كثرت وقد اخترنا أقواها سنداً ومتناً:
قال السيوطي: " أخرج ابن مروديه وابن أبي حاتم من طريق إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد تعالى فاستلم آلهتنا وندخل معك في دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرقّ لهم، فأنزل الله:
﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَخَذُوكَ خَلِيلاً ﴿73 ﴾ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ﴿74 ﴾ إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ﴾[الإسراء:73-75] قلت وهذا أصح ما ورد في سبب نزولها وهو إسناد جيد وله شاهد " (1).
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم كاد أن يستدرك لمطاوعة قومه بسبب حرصه على إسلامهم فأرادوا مداهنته وهو لا يعلم أنهم يمكرون به.
قال ابن الجوزي: " قال ابن عباس:....... وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً، ولكنه تخويف لأمته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه " (2).
" قال القاضي: معنى قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ ﴾ أنك كنت على صدد الركون إليهم لقوة خداعهم وشدة احتيالهم، لكن أدركتك عصمتنا فمنعتك من أن تتقرب من الركون فضلاً عن أن تركن إليهم، وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام مساهم بإجابتهم مع قوة الداعي إليها، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه ".
1- ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ﴾
لغة: " يفتنوك " لغة: " فتنه يَفْتِنُه ": أوقعه في الفتنه ".(3)
وقال ابن المنظور: " والفتنة: الضلال والإثم " (4).
اصطلاحاً:
ذكر القرطبي لها معنيين:
1- " (يزيلونك) يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه، قاله الهروي " (5).
2- وقيل يصرفونك، والمعنى واحد " (6).
فحاول المشركون أن يصرفوا أو يزيلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم القرآن وأوامره، وأرادوا أن يجعلوه مخالفاً لحكم القرآن(5)، وينتج عن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم سيفترى كذباً.
قال الماوردي: " يحتمل وجهين:
أحدهما: لتدعي علينا غير وحينا.
الثاني: لتعتدي في أوامرنا " (7).
لأنه إذا حكم بغير ما أنزل الله اضطر لأن يختلق حكماً لأصحابه ينسبه إلى الله تعالى ليجعل لما فعله وجهاً شرعياً، أولأنه سيخالف حكم الله في كتابه.
وهذا ما فُعل في هذا العصر، فقد سُوِم على كرامتنا وإسلامنا فقبلنا ففتنا عما جاء به قرآننا، فاضُطُّر أن يُبرر للجماهير أن ما فُعل يستند على رؤية شرعية.
لقد الله أراد بهذا الحدث أن يعلم أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم عدم المساومة على الحق لأن أساليب العدو متنوعة تارة بالترغيب وتارة بالترهيب وتارة بالمساومة.
لذلك بوب د/ محمد أمحزون في كتابه باباً بعنوان " الثبات على المبدأ ورفض المساومة عليه ".
وعدّ من أساليب المشركين:
" استدراج صاحب الدعوة إلى أنصاف الحلول للتنازل عن بعض دعوته " (8) وذكر تحته القصة.
فعلى الأمة ألا ترضى بأنصاف الحلول ولا تساوم على الحق، فقد ساومنا على أرض فلسطين فضاعت لأننا حين ساومنا تخلى عنا الله ـ كما سنذكر فيما بعد ـ. فعلينا أن نستمسك بما أوحي إلينا لأننا على صراطٍ مستقيم.
وينتبه سيد قطب إلى معنى آخر فيقول: " هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً محاولة إغرائهم لينحرفوا ـ ولو قليلاً ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة.
ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية إنما يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها، ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق.
وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم بها أول مرة، لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء، والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر والذي يسكت عن طرف منها مهما ضئول، لا يمكن أن يكون مؤمناً بدعوته حق الإيمان فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر وليس فيها فاضل ومفضول وليس فيها ضروري ونافلة، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنها.
وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه، كالمركب يفقد خواصه كلها حين يفقد أحد أجزائه، كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره !.
وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها.
والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة تكسب أصحاب السلطان إلى صفها، هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة، والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في دعوتهم، ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة فلن تنقلب الهزيمة نصراً " [1]
وهذا نص نفيس على القارئ أن يقرأه أكثر من مرة.
فعلينا أن نساوم على حقوقنا، ولا يساوم الدعاة في دعوتهم.
ولينتبه أن هذا يخالف الأولويات في مسيرة الدعاة خاصة في زمن الاستضعاف.
2- ﴿ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ﴾
خليلاً لها معنيان:
1- الموالاة والمصافة والمصادقة من الخُلة.
2- أي: فقير لحاجته إليهم من الخَلة [انظر تفسير القرطبي:10/305 والماوردى:3/260].
والجمع بين المعنيين أولى، إذ لو مشى في طريق المساومة لصار صديقاً إليهم ورضوا عنه ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم ﴾ [البقرة:120]، ولأن المسلم إذا تخلى عن الله استهوته الشياطين من الإنس والجن فضعف واحتاج إليهم ليأخذ منهم سلاحه وقوته وأمنه.
وأرى أن الواقع خير دليل، وما سفن القمح منا ببعيد بعد أن كنا أرضاً زراعية خصبة ولكن أوقعنا في فخ الفتنة فاتخذونا خليلاً.
فهم بداية يخلعونا من ديننا حتى نحتاج إليهم وبالفعل نجح مخططهم لأننا قبلنا المساومة على حق من حقوقنا ولو كان شبراً.
وهاك دليل آخر أنهم ساوموا عالماً على دينه فبذل لهم من دينه ما يحبون، فصار خليلاً لهم يحتاج منهم قوته وأمنه.
ونسي سعيد الحلبي الذي مدّ رجله في المسجد فدخل عليه السلطان فما رد رجله فأراد أن يعطيه مالاً فقال: " إن الذي يمد رجله لا يمد يده، ولو مد يده لقطع السلطان رأسه ".
وعلى المسلم أن يعادي أعداء الله ولا يواليهم وليعلم أن خسارته في مولاتهم ولأن الفقر مرهون بذلك الأمر.
3- ﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ ﴾
قال القرطبي: " أي: على الحق وعصمناك من موافقتهم " [الجامع لأحكام القرآن:10/305].
فثبت أصلاً بالعصمة، ولكن ثبت الله نبيه وأمته من بعده بأشياء ومقومات نريد أن نقف على بعضها من خلال كتاب الله:
1- قيام الليل:
فعندما نام صلى الله عليه وسلم مهموماً من قومه أنزل الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [لباب التقول في أسباب النزول:317، المزمل:1-2] فجعل تفريج كربه في قيام الليل. و كان سلفنا الصالح إذا همهم أمر بالنهار رددوا " إن الليل قريب "، لأنك بالليل تخلو بالله تدعوه وتتوسل إليه في و قت نزوله سبحانه و تعالى إلى السماء الدنيا، و تستمد منه عونك و قوتك.
2- قصص من قبله:
يقول د. محمد أمحزون: " الاستفادة من تجارب السابقين، فهي خبرات عملية، وهي بين موقفين: موقف إيجابي يحسن التأسي به، وموقف سلبي ومنزلقات على الطريق ينبغى الحرص والإبتعاد عنها، فالموقف الإيجابي يشد عزائم المؤمنين، ويثبت روح الثبات فيهم كقصة أصحاب الإخدود التي عبرت عن صبر وثبات المؤمنين السابقين " [منهج النبي في الدعوة:73-74].
لذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر قصص الأنبياء مع قومهم في سورة هود قال في آخرها: ﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾[هود:120].
قال الماوردى: " أي: نقوي به قلبك وتسكن إليه نفسك لأنهم بلوا فصبروا وجاهدوا فظفروا " [النكت والعيون:2/512].
3- وعي المسلمين لموقفهم في التاريخ:
ينبثق وعي المسلمين بذاتهم وموقفهم من خلال قوله تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ﴾ [آل عمران:110]
وقوله تعالى: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿43 ﴾ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف:42-44] فهو ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ولقومه.
ومن قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾[الفرقان:1] فإذا وعى المسلم موقفه كما هو وعاه ربعي بن عامر استطاع أن يثبت على الحق ويتحمل في سبيله ما يتحمل حتى يتم توصيله إلى الناس وإفهامهم إياه. و لكن حاول الغرب أن يلقوا في صدورنا أن الإسلام قد اتنهى دوره في الأرض و جاء دور الحضارة الغربية، فألقوا هذا في قلوب المسلمين فوقفوا عن دعوتهم وأخذوا في تلقي الحضارة الغربية مع اعتقادهم أنها منقذة لهم من الضلال والهزيمة، و لكن لا... مازال للمسلمين الدور في قيادة البشرية للخير، يقول المفكر الإسلامي سيد قطب - رحمه الله -: " فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه ـ أراد أعداؤه أم لم يريدوا ـ وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى كما لا يملك منهج آخر أن يؤديه، وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلاً عنه... ولا حاجة بنا إلى المضي في توكيد هذه الحقيقة على هذا النحو، ونكتفي في هذا الموضوع بعرض عبرة من الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العبر في هذا المقام. بينما سراقة بن مالك يطارد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه وهما مهاجران خفية عن أعين قريش وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه طمعاً في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد وصاحبه أو يخبر عنهما...، وبينما هو يهم بالرجوع وقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكفيهما من وراءه
في هذه اللحظة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا سراقة كيف بك وسوارى كسرى...).
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عارفاً بالحق الذي معه معرفته بالباطل الذي عليه الجماهير التي في الأرض كلها يوم ذاك. وكان واثقاً من أن الحق لابد أن ينتصر على هذا الباطل في صورته هذه ثم لا يكون ما يكون " [المستقبل لهذا الدين: سيد قطب].
يقول الشيخ الغزالي: " ليست الأمة الإسلامية جماعة من الناس همها أن تعيش بأي أسلوب، أو تخط طريقها في الحياة إلى أي وجهة وما دامت تجد القلوب واللذة فقد أراحت واستراحت.
كلا.... كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدد صلتهم بالله، وتوضح نظرتهم إلى الحياة وتنظم شئونهم في الداخل على أنحاء خاصة، وتسوق صلتهم بالخارج إلى غايات معينة. وفرق بين امرئ يقول لك: همي في الدنيا أن أحيا فحسب، وآخر يقول لك: إذا لم أحرس الشرف، وأصن الحقوق، وأرض لله وأغضب من أجله فلا سعت لي قدم ولا طرفت لي عين....... والمهاجرون إلى المدينة لم يتحولوا عن بلدهم ابتغاء ثراء أو استعلاء، والأنصار الذين استقبلوهم وناصبوا قومهم العداء، وأهدفوا أعناقهم للقاصى والداني، لم يفعلوا ذلك، ليعيشوا كيفما اتفق إنهم جميعاً يريدون أن يستضيئوا بالوحي وأن يحصلوا على رضوان الله وأن يحققوا الحكمة العليا التي من أجلها خلق الناس وقامت الحياة.......... وهل الإنسان جحد ربه واتبع هواه إلا حيوان ذميم أو شيطان رجيم " [فقه السيرة: محمد الغزالى: صـ188].
ويقول محمد قطب: " إن هذه الأمة.. لم تخرج لذات نفسها فحسب وإنما خرجت لتكون رائدة لكل البشرية وشاهدة عليه: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [البقرة:143] فهي حين تكون ذات وجود فعلى تحقيق الخير لنفسها وللبشرية معها. وحين ينحصر وجودها في الساحة فإنها تؤذي نفسها وتؤذي البشرية معها. وكلا الوجهين تحقق في تاريخ الأمة:
الجهة الأولى: أن الهوان الذي تعيش فيه الأمة اليوم يُنسي أبناءها قدر هذه الأمة، ووظيفتها التي أخرجها الله من أجلها إذ يجد المسلم نفسه وأمته في ذيل القافلة، لاهثين ليلحقوا بالركب فيستصغر قيمة نفسه، فلا يكاد يصدق أصلاً أنه أدى دوراً تاريخياً وكان قائداً لها ورائداً لمسيرتها.
الجهة الثانية: أن هذا الهوان ذاته ينسي المسلم المعاصر الهدف الذي يجب أن يعيش من أجله، فليس الهدف أن يلهث ليلحق بركب الجاهلية، وإنما هدفه أن يسترد مكان الريادة للبشرية مرة أخرى، ويرد البشرية الضالة إلى صوابها فإنه ينبغي ألا يغيب عن قلب المسلم المعاصر إحساسه برسالته الربانية ليكون هذا حافزاً له على العمل الجد ليخرج من تخلفه. " [كيف نكتب التاريخ الإسلامي: محمد قطب: صـ161]
4- التذكير الدائم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بأنهم على الحق:
قال تعالى: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[الزخرف:43]. وقال أيضـاً: ﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [يونس:94].
وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴿36 ﴾ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ ﴾ [الرعد:36-37]
وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾[فاطر:31].
وقال تعالى: ﴿ وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأنعام:126]
وقال أيضاً: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام:160].
5- الصبر:
" لم يكن تغيير الواقع الجاهلي وتحويله إلى واقع مسلم بالأمر الهين والسهل، بل قد احتاج إلى الجهد الكبير والإرادة الصلبة والعزيمة القوية.
وهذا الجهد لا يمكن المضي في بذله إلا إذا تدربت إدارة صاحبه على قوة التحمل وتوطنت نفسه على الصبر، لأنه العدة اللازمة في بلوغ الأهداف الكبيرة.
على أن الصبر ليس موعظة تستمع أو درساً يحفظ، وإنها مواقف تختبر بها صلابة الإرادة وقوة تحملها في الميادين المختلفة بالممارسة. " [منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة:77-78].
ويقول سيد قطب: " ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع، والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات.. لا بد من الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي والصبر على جهاد المُشَاقِّين لله والصبر على الكيد بشتى صفوفه والصبر على بطء النصر والصبر على بُعد المشقة والصبر على انتفاش الباطل والصبر على قلة الناصر والصبر على طول الطريق الشائك والصبر على إلتواء النفوس وضلال القلوب وثقلة العناد ومضاضة الإعراض. " [في ظلال القرآن:1/141].
الصبر هو الواحة الخضراء لمن فقد الظل في القفراء وهو الجعفر الكبير لمن اشتد عليه الصدى في الصحراء حتى أوشك على الهلاك، ولتكن مع سورة الأنعام نستمع إلى هذا الزاد: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام:34].
وبعد أن ذكر الله قصة نوح عليه السلام في سورة هود وأنه ظل يدعو قومة قرابة العشرة قرون أتحفه الله بالنصر فقال لحبيبه: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود:49].
وعندما أمره باتباع وحيه أمره بالصبر على ذلك حتى يحكم الله: ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس:109] وبين سبحانه أن نصره لبني إسرائيل على فرعون كان بسبب صبرهم: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ [الأعراف:137].
وعد الله الصابرين في زمرة المتقين والصادقين: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة:177] وبعد المعارك الطويلة التي دارت رحاها في في آل عمران أمرنا في نهاية السورة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
ولاحظ معي أن لفظ وصابروا يدل على المفاعلة على الأخذ والجذب، أي: أنه صبر إيجابي لا صبر سلبي.
وفي زمن الاستضعاف وتمكُن أعداء الله منا أُمرنا بالصبر على آذاهم وعدم قتالهم حتى يمكنا الله ونطهر ديننا: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [آل عمران:186].
يقول ابن تيمية: " فأما قبل براءة وقبل بدر فقد كان ـ أي: الرسول صلى الله عليه وسلم ـ مأموراً بالصبر على آذاهم والعفو عنهم، وأما بعد بدر وقبل براءة فقد كان يقاتل من يؤذيه ويمسك لسانه عمن سالمه، كما فعل بابن الأشرف وغيره ممن كان يؤذيه. فبدر كانت أساس عز الدين وفتح مكة كان كمال عز الدين، فكانوا قبل بدر يسمعون الأذى الظاهر ويؤمرون بالصبر عليه وبعد بدر يؤذون في السر من جهة المنافقين وغيرهم ويؤمرون بالصبر عليه، وفي تبوك أمروا بالإغلاظ على الكفار والمنافقين فلم يتمكن بعدها كافر ولا منافق من آذاهم في مجلس خاص ولا عام، با مات بغيظه لعلمه بأنه يُقتل إذا تكلم.
فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمرهم بها في أول الأمر وكان ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية، وصارت تلك الآيات ـ أي: آيات الصبـر على أذى الكفارـ في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينصره بما يقدر عليه من القلب ونحوه.
فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر.. " [تقريب الصارم المسلوم على شاتم الرسول لابن تيميه: صلاح الصاوى:117-118].
6-الذكر:
وربما ينفد زاد الصبر فيكون التسبيح هو الذي دائماً يملؤه.
لذلك قال تعال رابطاً بين الصبر والتسبيح: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ﴾ [طه:130].
وقال: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴿39 ﴾ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾ [ق:39-40].
فالذكر هو الزاد الدائم والرابط بين الإنسان والقوى العظمى في الكون، لذلك نرى أن المؤمنين قبل أن يخوضوا أي معركة يستقبلونها بالذكر، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿250 ﴾ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ [البقرة:250-251].
وقال أيضاً: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴿146 ﴾ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران:146-147].
وقال تعالى مبيناً زاد الثبات في المعركة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ [الأنفال:45].
وما انتصر الحبيب صلى الله عليه وسلم في بدر حتى وقع رداؤه من على منكبيه.
وإليك تلك القصة التي يرويها الشيخ حافظ سلامة في حروب الاستنزاف: " كما لا أنسى فضيلة الدكتور محمد نايل عندما كان بكتيبة من مدفعية هوزر تقع بضواحي السويس ويرى الجند عند اشتباكهم مع جنود العدو وهم يصيحون [هه هه هه] فيقول لهم لماذا لا تغيرون [هه هه هه] إلى [الله أكبر] عند حملكم دانات المدفعية، أو عند انطلاقها؟!. بل وفي جميع تحركاتكم؟! فإن عناية الله ستكون معكم ! ولم تمض ساعات بعد خروج د. محمد نايل ومع توصيته لهؤلاء الجنود. ولأول مرة تشهد المعركة عند تبادل طلقات المدفعية بيننا وبين مدفعية العدو ويبدأ أبناؤنا تنفيذ وصية دز محمد نايل بشعار " الله أكبر " فإذا بهم ولأول مرة يخرسون مدفعية العدو ويصيبونها في مقتل وتنتصر المدفعية المصرية لأول مرة " [ملحمة السويس في حرب العاشر من رمضان: حافظ سلامة:80]
فبالله أكبر نستجلب معية الله الخاصة التي تكون بالعناية والحفظ والنصر.
5- ﴿ إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ﴾
ولقد ذكر الله عقاب الركون إليهم ومساومتهم على حقوقنا ودعوتنا وهو:
1- ضعف الحياة وضعف الممات:
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: " لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات "
والضعف هو النصيب " [النكت والعيون:3 \ 260].
2- ثم لا تجد لك علينا نصيراً:
التخلي عن النصرة بداية ثم لن ينصره أحد من عذاب الله فلا نصير له ولا معين فليذهب إلى من ساومهم ربما ينصرونه.
لذلك قال عمر بن الخطاب: " كنا أذل العرب فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. "
وأخيرا هذا هو جهد المقل في هذا الموضوع فإن وفقت فما توفيقي إلا بالله، وإن أخفقت فبما كسبت يدي. والسلام عليكم ممن يحب لكم الخير والسلام.
مختارات