مقتطفات الفوائد من تفسير ابن كثير
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114]
عن عبدالله بن مسعود، أنه قال: الأواه: الدعّاء، وكذا روي من غير وجه، عن ابن مسعود، وقيل: المتضرع، وقيل: الرحيم، وقيل: الموقن المؤمن، وقيل: المسبح، وقيل: غير ذلك.
آية
قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]
...
والأحسن في هذا ما رواه الضحاك، عن ابن عباس: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) أي: من المال. وفي رواية: لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه، فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه، وما مسني السوء، قال: ولا يصيبني الفقر.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: معنى ذلك: لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة، ولعرفت الغلاء من الرخص، فاستعددت له من الرخص.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (وما مسني السوء) قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون، واتقيته.
وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
" إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" [الأعراف: 152]
وقوله: (وكذلك نجزي المفترين) نائلة لكل من افترى بدعة، فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة متصلة من قلبه على كتفيه، كما قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البغلات، وطقطقت بهم البراذين.
وهكذا روى أيوب السختياني، عن أبي قلابة الجرمي، أنه قرأ هذه الآية: (وكذلك نجزي المفترين) قال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل.
لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا
"يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا..."الآية
يمتن تبارك وتعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس المذكور هاهنا لستر العورات - وهي السوءات والرياش والريش: هو ما يتجمل به ظاهرا، فالأول من الضروريات، والريش من التكملات والزيادات.
قال ابن جرير: " الرياش " في كلام العرب: الأثاث، وما ظهر من الثياب.
قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
قال تعالى"وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"
وقال أبو العالية: الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى أن حجه عليه إن استطاع إليه سبيلا.
وقال مجاهد، والربيع بن أنس: حنيفا، أي: متبعا.وقال أبو قلابة: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم.
قال قتادة: الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله
يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله، عز وجل والختان.
فَمَرَّتْ بِهِ ۖ
فَمَرَّتْ بِهِ ۖ ..
۞ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 189]
وقوله: (فمرت به) قال مجاهد: استمرت بحمله. وروي عن الحسن، وإبراهيم النخعي، والسدي، نحوه.
وقال ميمون بن مهران: عن أبيه استخفته.
وقال أيوب: سألت الحسن عن قوله: (فمرت به) قال: لو كنت رجلا عربيا لعرفت ما هي. إنما هي: فاستمرت به.
وقال قتادة: (فمرت به) واستبان حملها.
وقال ابن جرير: [معناه] استمرت بالماء، قامت به وقعدت.
وقال العوفي، عن ابن عباس: استمرت به، فشكت: أحملت أم لا.
(فلما أثقلت) أي: صارت ذات ثقل بحملها.
وقال السدي: كبر الولد في بطنها.
(دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا)أي: بشرا سويا، كما قال الضحاك، عن ابن عباس: أشفقا أن يكون بهيمة.
وكذلك قال أبو البختري وأبو مالك: أشفقا ألا يكون إنسانا.
وقال الحسن البصري: لئن آتيتنا غلاما.
سنعذبهم مرتين
وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة: 101]
يخبر تعالى رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقين، وفي أهل المدينة أيضا منافقون (مردوا على النفاق) أي: مرنوا واستمروا عليه: ومنه يقال: شيطان مريد ومارد، ويقال: تمرد فلان على الله، أي: عتا وتجبر.
وقال مجاهد في قوله: (سنعذبهم مرتين) يعني: القتل والسباء وقال - في رواية - بالجوع، وعذاب القبر، (ثم يردون إلى عذاب عظيم)
وقال ابن جريج: عذاب الدنيا، وعذاب القبر، ثم يردون إلى عذاب النار.
وقال الحسن البصري: عذاب في الدنيا، وعذاب في القبر
جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة: 73]
وقال ابن مسعود في قوله تعالى: (جاهد الكفار والمنافقين) قال: بيده، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه.
وقال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم.
وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف، واغلظ على المنافقين بالكلام، وهو مجاهدتهم. وعن مقاتل والربيع مثله.
وقال الحسن وقتادة: مجاهدتهم: إقامة الحدود عليهم.
وقد يقال: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا، وتارة بهذا بحسب الأحوال، والله أعلم.
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة: 57]
(لو يجدون ملجأ) أي: حصنا يتحصنون به، وحرزا يحترزون به، (أو مغارات) وهي التي في الجبال، (أو مدخلا) وهو السرب في الأرض والنفق. قال ذلك في الثلاثة ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. (لولوا إليه وهم يجمحون) أي: يسرعون في ذهابهم عنكم، لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة، وودوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام ؛ ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم ؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عز ونصر ورفعة ؛
حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29]
وقوله: (حتى يعطوا الجزية) أي: إن لم يسلموا، (عن يد) أي: عن قهر لهم وغلبة، (وهم صاغرون) أي: ذليلون حقيرون مهانون. فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه.
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ، من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين صالح نصارى من أهل الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة، ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي منها ما كان خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نئوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا، ولا نكتم غشا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركا، ولا ندعو إليه أحدا ؛ ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رءوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانين ولا باعوثا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في منازلهم.
قال: فلما أتيت عمر بالكتاب، زاد فيه: ولا نضرب أحدا من المسلمين، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
إِلًّا وَلَا ذِمَّةً
إِلًّا وَلَا ذِمَّةً
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 8]
يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداة المشركين والتبري منهم، ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله وكفرهم برسول الله ولو أنهم إذ ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم، لم يبقوا ولم يذروا، ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة.
قال علي بن أبي طلحة، وعكرمة، والعوفي عن ابن عباس: " الإل ": القرابة، " والذمة ": العهد. وكذا قال الضحاك والسدي
إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال: 73]
...
ومعنى قوله تعالى: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض.
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30]
قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: (ليثبتوك) [أي]: ليقيدوك.
وقال عطاء، وابن زيد: ليحبسوك.
وقال السدي: الإثبات هو الحبس والوثاق.
( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)
يعني: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة.
وقال في رواية له، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم إليهم فيعمهم الله بالعذاب.
وهذا تفسير حسن جدا ؛ ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)هي أيضا لكم، وكذا قال الضحاك، ويزيد بن أبي حبيب، وغير واحد.
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم
"فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الأنفال: 17]
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد، وأنه المحمود على جميع ما صدر عنهم من خير ؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم ؛ ولهذا قال: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) أي: ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم...
ثم قال لنبيه - ﷺ - أيضا في شأن القبضة من التراب، التي حصب بها وجوه المشركين يوم بدر، حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه. ثم أمر الصحابة أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ؛ ولهذا قال [تعالى] (وما رميت إذ رميت) أي: هو الذي بلغ ذلك إليهم، وكبتهم بها لا أنت.
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف: 202]
وقوله: (وإخوانهم) أي: وإخوان الشياطين من الإنس، كقوله: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) [الإسراء: 27] وهم أتباعهم والمستمعون لهم القابلون لأوامرهم (يمدونهم في الغي) أي: تساعدهم الشياطين على المعاصي، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم.
(ثم لا يقصرون) قيل: معناه إن الشياطين تمد، والإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك. كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم.
كما قال تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) [مريم: 83] قال ابن عباس وغيره: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا
جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 190]
...
قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) قال: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال الحسن: عنى بها ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده - يعني: [قوله] (جعلا له شركاء فيما آتاهما)
وحدثنا بشر حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا، فهودوا ونصروا
وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن، رحمه الله، أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية...