فوائد من كتاب صفة الصفوة 13
حكمــــــة
قال مسمع: بت أنا وعبد العزيز بن سلمان وكلاب وسلمان الأعرج على ساحل من بعض السواحل فبكى حتى خشيت أن يموت، ثم بكى عبد العزيز لبكائه. ثم بكى سلمان لبكائهما. وبكيت والله لبكائهم لا أدري ما أبكاهم.فلما كان بعد سألت عبد العزيز فقلت: أبا محمد ما الذين أبكاك ليلتك؟ قال: إني نظرت والله إلى أمواج البحر تموج فذكرت أطباق النيران وزفراتها فذاك الذي أبكاني. ثم سألت كلابا وسلمان فقالا لي نحوا من ذلك. قال مسمع: ما كان في القوم شر مني، ما كان بكائي إلا لبكائهم رحمة لما يصنعون بأنفسهم.
حكمــــــة
قال محمد بن عبد العزيز سلمان العابد: سمعت دهثما، وكان من العابدين، يقول: اليوم الذي كنت لا آتي فيه عبد العزيز كنت مغبونا فأبطأت عليه ذات يوم ثم أتيته فقال: ما الذي أبطأ بك؟ قلت: خير. قال: على حال. قلت: شغلنا العيال، كنت ألتمس لهم شيئا. قال: فوجدته لهم؟ قلت: لا. قال: هلم فلندع، قال: فدعا وأمنت ودعوت وأمن. ثم نهضنا لنقوم فإذا والله الدنانير والدراهم تتناثر في حجورنا. فقال: دونكها ومضى ولم يلتفت إلي. قال: فأخذتها فإذا مائة دينار ومائة درهم. قال محمد: فقلت له: ما صنعت بها؟ قال: احتبست قوت عيالي جمعة حتى لا يشغلني عن عبادته وشكره وخدمته فكر في شيء من عرض الدنيا، ثم أمضيتها والله في سبيل الله.
حكمــــــة
عن عبد العزيز بن سلمان العابد، وكان يرى الآيات والأعاجيب، قال: حدثني مطهر السعدي، وكان قد بكى شوقا إلى الله تعالى ستين عاما، قال: أريت كأني على ضفة نهر يجري بالمسك الأذفر، حافتاه شجر لؤلؤ وقضبان الذهب، فإذا أنا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد: سبحان المسبح بكل لسان، سبحانه، سبحان الموجود بكل مكان، سبحانه، سبحان الدائم في كل الأزمان، سبحانه.قال: فقلت: من أنتن؟ فقلن: خلق من خلق الرحمن سبحانه فقلت: ما تصنعن ههنا فقلن: ذرانا إله الناس رب محـمـد لقوم على الأطراف بالليل قوم يناجون رب العالمين إلهـهـم فتسري هموم الدنيا والناس نوم قال: فقلت: بخ بخ لهؤلاء، من هؤلاء؟ لقد أقر الله أعينكم بكن، فقلن: أو ما تعرفهم؟ قلت: لا والله ما أعرفهم. قلن: بلى هؤلاء المتهجدون أصحاب القرآن والسهر.
حكمــــــة
عن حكيم بن جعفر قال: كان مسمع يحدثني بحالات كلاب بن جري فأسمع شيئا ما كنت أرى أن يكون في هذه الأمة مثله، من شدة الخوف وطرب الشوق، فقلت له: يا أبا سيار فكيف كان ليله؟ قال: شهدته ليلة في بعض السواحل وهو يصرخ من أول الليل إلى آخره. فلما كان بعد ذلك قلت له: رحمك الله لقد أويت لك من طول ما كنت فيه ليلتك. قال: فبكى ثم قال: يا أبا سيار فبمن أستغيث إذا؟ قال: فأبكاني والله.
حكمــــــة
قال مسمع انطلقت أنا وعبد العزيز بن سلمان إلى ناشرة بن سعيد الحنفي؛ وكان قد بكى حتى أظلمت عيناه، فاستأذنا عليه فأذن لنا فدخلنا فسلم عليه عبد العزيز، فقال له ناشرة: أبو محمد؟ قال: نعم. قال: ما جاء بك؟ قال: نبكي معك على ما تقدم من سالف الذنوب. قال: فشهق شهقة خر مغشيا عليه، وجلس عبد العزيز يبكي عند رأسه. قال: وتنادى أهله فجعلوا يبكون حوله وهو صريع بينهم. فلما رأيت البكاء قد كثر انسللت فخرجت.
حكمــــــة
قال عبد الرحمن بن مهدي: كان يقال إذا لقي الرجل من فوقه في العلم: كان يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله دارسه وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه. ولا يكون إماما في العلم في العلم من يحدث بكل ما سمع ولا يكون إماما في العلم من يحدث عن كل أحد، ولا يكون إماما في العلم من يحدث بالشاذ من العلم والحفظ والإتقان.
حكمــــــة
قال عبد الرحمن بن مهدي، وأراد أن يبيع أرضا له فقال الدلال: أعطيت بالجريب خمسين ومائتي دينار ولكن نظر إلى أرض خراب ونخل بادية العروق، فلولا كانت مسمدة رجوت أن أبيع الجريب بفضل خمسين دينارا وهذا كثير أربعة آلاف دينار؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب سورة المائدة آية 1 لا ولا كذا. أظنه قال: ولا مائة ألف.
حكمــــــة
قال عبد الرحمن بن عمر: وحدثني يحيى بن عبد الرحمن بن مهري أن أباه كان يحيى الليل كله قال عبد الرحمن بن عمر: وسمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: والله لا تجد فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله، كنت أنا وأخي شريكين فأصبنا مالا كثيرا فدخل قلبي من ذلك شيء فتركته لله وخرجت منه فما خرجت من الدنيا حتى رد الله علي ذلك المال عامة إلي وإلى ولدي، زوج أخي ثلاث بنات من بني وزوجت ابنتي من ابنه، ومات أخي فورثه أبي، ومات أبي فورثنه أنا، فرجع ذلك كله إلي وإلى ولدي في الدنيا.
حكمــــــة
قال عفان: دعاني إسحاق بن إبراهيم فقرأ علي الكتاب الذي كتب به المأمون وإذا فيه: امتحن عفان وادعه إلى أن يقول: القرآن كذا وكذا. فإن قال ذلك فأقرأه على أمره وإن لم يجبك فاقطع عنه الذي يجري عليه وكان يجري عليه خمسمائة درهم كل شهر. قال عفان: فقال لي: ما تقول؟ قرأت قل هو الله أحد سورة الإخلاص آية 1 حتى ختمتها وقلت: مخلوق هذا؟ فقال: إن أمير المؤمنين يقول إن لم تجبه يقطع عنك ما يجرى عليك فقلت يقول الله تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون سورة الذاريات آية 22 فسكت عني، فانصرفت.
حكمــــــة
قال إبراهيم بن شيبة: كنا نتجالس في الجمعة فأتى رجل عليه ثوب واحد ملتحف به فجلس إلينا فألقى مسألة فما زلنا نتكلم في الفقه حتى انصرفنا. فمكثنا بذلك زمانا ثم انقطع عنا فقال بعضنا لبعض:نزوره وذهبنا اليه وقابلنا امير البصرة فسالنا عن قصتنا ومن أين أقبلنا فصدقته الحديث. فقال: أنا أسبقكم إلى بره. يا غلام ائتني ببدرة دراهم فجاء بها فقال: ائتني بغلام فراش فجاء فقال: احمل هذه البدرة مع هذا الرجل حتى تدفعها إلى من أمرنا. فذهبنا الى صاحبنا فلما رأى الفراش والبدرة على عنقه كأني سفيت في وجهه الرماد وأقبل علي بغير الوجه الأول فقال: ما لي ولك يا هذا؟ أتريد أن تفتنني؟وأصفق الباب في وجهي فرجعت واخبرت الخبر للامير فغضب فقلت ارجع اليه مرة ثانية حتى أتيت الباب فسلمت فإذا المرأة تحن وتبكي فقلت: ما حاله؟ قالت: دخل فمال إلى الركى فنزع منها ماء فتوضأ ثم سمعته يقول: اللهم اقبضني إليك ولا تفتني. ثم تمدد وهو يقول ذلك فلحقته وقد قضى فهو ذاك ميت.
حكمــــــة
كان أبو الحسن المكي يسف الخوص وكان لا يملك إلا دارا فلما ضعف عن سف الخوص باعها على شرط أن يكريه المشتري إياها وأودع الثمن عند المشتري، وكان يأخذ منه في كل شهر خمسة دراهم لنفقته ويعطي المشتري أجرة الدار. فمات قبل أن ينفذ الثمن، وكانت له جبة صوف بيضاء أقامت معه عشرين سنة شتاء وصيفا ما لبس غيرها، وكانت في نهاية الحسن والنقاء والنظافة والصحة. وكان موته حوالي سنة خمسين وثلثمائة وكانت جنازته عظيمة.
حكمــــــة
عن الحسن قال: احترقت أخصاص بالبصرة وبقي في وسطها خص لم يحترق وأمير البصرة يومئذ أبو موسى الأشعري. فخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص فأتي به فإذا شيخ فقال: يا شيخ ما بال خصك لم يحترق؟ قال: إني أقسمت على ربي أن لا يحرقه فقال أبو موسى: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون في أمتي رجال طلس رؤوسهم، دنس ثيابهم، لو أقسموا على الله لأبرهم.
حكمــــــة
قيل للحسن: ههنا رجل لم نره قط جالسا إلى أحد إنما هو أبدا خلف سارية وحده. فقال الحسن: إذا رأيتموه فأخبروني به. قال فمر به ذات يوم ومعهم الحسن فأشاروا له إليه فقالوا: ذلك الرجل الذي أخبرناك. فقال: امضوا حتى آتيه. فلما جاءه قال: يا عبد الله أراك قد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مخالطة الناس؟ قال: ما أشغلني عن الناس. قال: فيأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه. قال ما أشغلني عن الحسن وعن الناس. قال: له الحسن: فما الذي شغلك - يرحمك الله - عن الناس وعن الحسن؟ قال: إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة، فرأيت أن أشغل نفسي عن الناس بالاستغفار للذنب والشكر لله على النعمة. فقال له الحسن: أنت يا عبد الله أفقه عندي من الحسن، الزم ما أنت عليه.
حكمــــــة
عطية بن سليمان قال: جلست إلى يونس بن عبيد حتى صلينا العصر فقال: هل لكم في فلان العابد نعوده فأتينا رجلا قد وقعت في فيه الخبيثة حتى أبدت عن أضراسه فكان إذا أراد أن يتكلم دعا بعقب من ماء وبقطنة فيبل لسانه حتى يبتل ثم يتكلم بكلمات يحسن فيهن. فلما دخلنا عليه دعا بالقدح ليفعل ما كان يفعل، فبينا هو يبل لسانه سقطت حدقتاه في القدح فأخذهما فمر بهما بيده ثم قال: إني لأجد فيهما دسما وما كنت أظنه بقي فيهما. ثم استقبل القبلة فقال: الحمد لله الذي أعطانيهما وأمتعني بهما شبابي وصحتي حتى إذا أفنيت أيامي وحضر أجلي أخذهما مني ليبدلني بهما إن شاء الله خيرا منهما. فقال له يونس: قد كنا تهيأنا لنعزيك فنحن الآن نهنئك فقال خيرا ودعا. ثم خرجنا من عنده.
حكمــــــة
عن مالك بن دينار قال: احتبس علينا المطر بالبصرة فخرجنا يوما بعد يوم نستسقي فلم نر أثرا لإجابة.وانصرف الناس وبقيت أنا وثابت في المصلى فلما أظلم الليل إذا بأسود دقيق الساقين عظيم البطن عليه مئزران من صوف، فجاء إلى ماء فتمسح ثم صلى ركعتين خفيفتين ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: سيدي إلى كم ترد عبادك فيما لا ينقصك أنفد ما عندك؟ أقسمت عليك بحبك لي إلا ما سقيتنا غيثك الساعة الساعة. فما أتم الكلام حتى تغيمت السماء وأخذتنا كأفواه القرب فما خرجنا حتى خضنا الماء. فعرفت انه عبد فاشتريته من سيده فقال لما اشتريتنى قلت: لنخدمك نحن. قال: ولم ذاك؟ قلت: أليس أنت صاحبنا البارحة في المصلى؟ قال: وقد اطلعت على ذلك فجعل يمشي حتى دخل مسجدا فصلى ركعتين ثم قال: إلهي وسيدي سر كان بيني وبينك أظهرته للمخلوقين، أقسمت عليك إلا قبضت روحي الساعة. فإذا هو ميت.....
حكمــــــة
قال حصين الوزان: كنا عند عبد الواحد وهو يعظ فناداه رجل من ناحية المسجد كف يا أبا عبيدة فقد كشفت قناع قلبي فلم يلتفت عبد الواحد ومر في الموعظة. فلم يزل الرجل يقول: كف يا أبا عبيدة فقد كشفت قناع قلبي وعبد الواحد يعظ ولا يقطع وموعظته حتى والله حشرج الرجل حشرجة الموت، ثم خرجت نفسه. قال: فأنا والله شهدت جنازته يومئذ فما رأيت بالبصرة يوما أكثر باكيا من يومئذ.
حكمــــــة
عن يزيد الرقاشي قال: دخلت على عابد بالبصرة وإذا أهل بيته حوله فإذا هو مجهود قد أجهده الاجتهاد. قال: فبكى أبوه فنظر إليه ثم قال: أيها الشيخ، ما الذي يبكيك؟ قال: يا بني أبكي فقدك وما أرى من جهدك. قال: فبكت أمه. فقال: أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيك؟ قال: يا بني أبكي فراقك وما أتعجل من الوحشة بعدك. قال: فبكى أهله وصبيانه. فنظر إليهم ثم قال: يا معشر اليتامى بعد قليل، ما الذي يبكيكم؟ قالوا: يا أبانا نبكي فراقك وما نتعجل من اليتم بعدك. قال: فقال: أقعدوني أقعدوني ألا أرى كلكم يبكي لدنياي أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من يبكي لما يلقاه في التراب وجهي؟ أما فيكم من يبكي لمساءلة منكر ونكير وإياي؟ أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي الله ربي؟ قال: ثم صرخ صرخة فمات.
حكمــــــة
قال عبد الواحد: خرجت إلى ناحية الحربية فإذا إنسان أسود مجذوم قد تقطعت كل جارحة له بالجذام وعمي وأقعد وإذا صبيان يرمونه بالحجارة حتى دموا وجهه. فرأيته يحرك شفتيه فدنوت منه لأسمع ما يقول فإذا هو يقول: يا سيدي إنك لتعلم أنك لو قرضت لحمي بالمقاريض ونشرت عظامي بالمناشير ما ازددت لك إلا حبا فاصنع بي ما شئت.
حكمــــــة
قال ابن سماك: دخلت البصرة فقلت لرجل كنت أعرفه دلني على عبادكم. فأدخلني على رجل عليه لباس الشعر، طويل الصمت لا يرفع رأسه إلى أحد. قال فجعلت أستنطقه الكلام فلا يكلمني. فخرجت من عنده فقال لي صاحبي: ههنا ابن عجوز هل لك فيه؟ قال: فدخلنا عليه فقالت العجوز: لا تذكروا لابني شيئا من ذكر جنة ولا نار فتقتلوه علي فإنه ليس لي غيره. قال: فدخلنا على شاب عليه من اللباس نحو مما على صاحبه منكس الرأس طويل الصمت فرفع رأسه فنظر إلينا ثم قال: أما إن للناس موقفا لا بد أن يقفوه قال: فقلت بين يدي من رحمك الله؟ قال: فشهق شهقة فمات. قال ابن السماك فجاءت العجوز فقالت: قتلتم ولدي. قال: فكنت فيمن صلى عليه.
حكمــــــة
كانت معاذة العدوية تصلي في كل يوم وليلة ستمائة ركعة وتقرأ جزءها من الليل تقوم به. وكانت تقول عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور. قال أبو السور العدوي: بنو عدي أشد أهل هذه البلدة اجتهادا، هذا أبو الصهباء لا ينام ليله ولا يفطر نهاره، وهذه امرأته معاذة ابنة عبد الله لم ترفع رأسها إلى السماء أربعين عاما.
حكمــــــة
عن عمران بن خالد قال: حدثتني أم الأسود بنت زيد العدوية وكانت معاذة قد أرضعتها قالت: قالت لي معاذة لما قتل أبو الصهباء وقتل ولدها والله يا بنية ما محبتي للبقاء في الدنيا للذيذ عيش ولا لروح نسيم، ولكن والله أحب البقاء لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.
حكمــــــة
قال عفيرة العابدة: بلغني أن معاذة العدوية لما احتضرها الموت بكت ثم ضحكت. فقيل لها: مم بكيت ثم ضحكت فمم البكاء ومم الضحك؟ قالت: أما البكاء الذي رأيتم فإني ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر فكان البكاء لذلك، وأما الذي رأيتم من تبسمي وضحكي فإني نظرت إلى أبي الصهباء قد أقبل في صحن الدار وعليه حلتان خضراوان وهو في نفر والله ما رأيت لهم في الدنيا شبها فضحكت إليه ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضا. قال فماتت قبل أن يدخل وقت الصلاة.
حكمــــــة
قال عاصم: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا وتنقبت به فنقول لها: رحمك الله قال الله والقواعد من النساء اللائي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة سورة النور آية 60 وهو الجلباب. قال فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: وأن يستعففن خير لهن فتقول هو إثبات الجلباب.
حكمــــــة
عن هشام أن ابن سيرين كان إذا أشكل عليه شيء من القراءة قال: اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ. كان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصيف فيقشره ويأخذ القصب. فيفلقه قالت حفصة: وكنت أجد قرة فكان إذا جاء الشتاء جاء بالكانون فيضعه خلفي وأنا في مصلاي ثم يقعد فيوقد بذلك الحطب المقشر وذاك القصب المفلق وقودا لا يؤذي دخانه ويدفئني. نمكث بذلك ما شاء الله. قالت: وعند من يكفيه لو أراد ذلك. قالت: وربما أردت أنصرف إليه فأقول: يا بني ارجع إلى أهلك ثم أذكر ما يريد فأدعه.
حكمــــــة
كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها منيبة، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها. فكان الحسن ربما رآها وتعجب من عبادتها على حداثتها. فبينا الحسن ذات يوم جالس إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت فوثب الحسن فدخل عليها فلما نظرت الجارية إليه بكت. فقال لها يا حبيبتي ما يبكيك؟ قالت له: يا أبا سعيد التراب يحثى على شبابي ولم أشبع من طاعة ربي يا أبا سعيد انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: احفر لا بنتي قبرا واسعا وكفنها بكفن حسن، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي، كيف أنا أجهز إلى ظلمة القبور ووحشتها وبيت الظلمة والدود؟
حكمــــــة
عن مسمع بن عاصم ورياح القيسي قالا: شهدنا رابعة وقد أتاها رجل بأربعين دينارا فقال لها: تستعينين بها على بعض حوائجك. فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء فقال: هو يعلم أني أستحيي منه أن أسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف أريد أن آخذها ممن لا يملكها؟ محمد بن عمرو قال: دخلت على رابعة وكانت عجوزا كبيرة بنت ثمانين سنة كأنه الشن تكاد تسقط ورأيت في بيتها كراخة بواري ومشجب قصب فارسي طوله من الأرض قدر ذراعين، وستر البيت جلد وربما كان بوريا، وحب وكو ولبد هو فراشها وهو مصلاها. وكان لها مشجب من قصب عليه أكفانها وكانت إذا ذكرت الموت انتفضت وأصابتها رعدة وإذا مرت بقوم عرفوا فيها العبادة.
حكمــــــة
قال رجل لرابعة العدوية: ادعي، فالتصقت بالحائط وقالت: من أنا يرحمك الله؟ أطع ربك وادعه فإنه يجيب المضطرين. عن سجف بن منظور قال: دخلت على رابعة وهي ساجدة فلما أحست بمكاني رفعت رأسها فإذا موضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من دموعها. فسلمت فأقبلت علي فقالت: يا بني ألك حاجة؟ فقلت: جئت لأسلم عليك، قال: فبكت وقالت: سترك اللهم سترك ودعت بدعوات ثم قامت إلى الصلاة وانصرفت.
حكمــــــة
قيل لرابعة: هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك؟ قالت: إن كان فمخافتي أن يرد علي. قال جعفر: أخذ بيدي سفيان الثوري وقال: مر بنا إلى المؤدبة التي لا أجد من أستريح إليه إذا فارقتها. فلما دخلنا عليها رفع سفيان يده وقال: اللهم إني أسألك السلامة فبكت رابعة. فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: أنت عرضتني للبكاء. فقال: وكيف؟ قالت: أما علمت أن السلامة من الدنيا ترك ما فيها فكيف وأنت متلطخ بها؟ وقال الثوري بين يدي رابعة: واحزناه، فقالت: لا تكذب. قل: واقلة حزناه، لو كنت محزونا ما هناك العيش.
حكمــــــة
قالت رابعة لسفيان: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم، فاعمل. قالت عبدة بنت أبي شوال، وكانت تخدم رابعة. قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور. قالت: فكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت. فلما حضرتها الوفاة دعتني قالت: يا عبدة لا تؤذني بموتي أحدا وكفنيني في جبتي هذه، جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون.
حكمــــــة
كانت عجردة العمية تحيي الليل صلاة. تقوم من أول الليل إلى السحر فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي بتبكير الدلج إلى ظلم الأسحار يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك إلهي لا بغيرك أسألك أن تجعلني في أول زمرة السابقين إليك، وأن ترفعني إليك في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أكرم الكرماء، وأرحم الرحماء، وأعظم العظماء، يا كريم. ثم تخر ساجدة فلا تزال تبكي وتدعو في سجودها حتى يطلع الفجر فكان ذلك دأبها ثلاثين سنة.
حكمــــــة
كانت مريم البصرية تخدم رابعة العدوية، وكانت إذا سمعت علوم المحبة طاشت فحضرت بعض المذكرين فتكلم في المحبة. فماتت في المجلس. قامت مريم البصرية من أول الليل فقالت: الله لطيف بعباده سورة الشورى آية 19. ثم لم تجره حتى أصبحت. وقالت: ما اهتممت بالرزق ولا تعبت في طلبه منذ سمعت الله يقول: وفي السماء رزقكم وما توعدون...
حكمــــــة
قال يحيى: دخلت مع نفر من أصحابنا على عفيرة، وكانت قد تعبدت وبكت حتى عميت. فقال بعض أصحابنا لرجل إلى جنبه: ما أشد العمى على من كان بصيرا. فسمعت عفيرة فقالت له: يا عبد الله عمى القلب، والله، عن الله أشد من عمى العين عن الدنيا، والله وددت أن الله وهب لي كنه محبته وأنه لم تبق مني جارحة إلا أخذها.
حكمــــــة
عن عبد العزيز بن سلمان قال: اختلفت عبيدة وأبي إلى مالك بن دينار عشرين سنة. قال أبي: فما سمعتها تسأل مالكا عن شيء قط إلا مرة، قالت: يا أبا يحيى متى يبلغ المتقي الدرجة العليا التي ليس فوقها درجة؟ قال مالك: بخ بخ يا عبيدة إذا بلغ المتقي تلك الدرجة العليا التي ليس فوقها درجة لم يكن شيء أحب إليه من القدوم على الله. قال: فصرخت عبيدة صرخة سقطت مغشيا عليها.
حكمــــــة
كانت أم طلق تصلي في كل يوم وليلة أربعمائة ركعة، وتقرأ من القرآن ما شاء الله. كانت أم طلق تقول: ما ملكت نفسي ما تشتهي منذ جعل الله لي عليها سلطانا. قالت أم طلق لطلق: ما أحسن صوتك بالقرآن فليته لا يكون عليك وبالا يوم القيامة. فبكى حتى غشي عليه. كانت أم طلق تقول: النفس ملك إن أتبعتها ومملوك إن أتعبتها.
حكمــــــة
ضربت أم إبراهيم دابة فكسرت رجلها، فأتاها قوم يعزونها. فقالت: لولا مصائب الدنيا وردنا الآخرة مفاليس. قال أبو موسى الشواء: كنت مع أم إبراهيم العابدة. فلما صرنا عند الجمار رأت الناس قد أقبلوا على الشراء والبيع، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: حبيبي أقبلوا على الدنيا وتركوك. قال: ثم صاحت واجتمع الناس فغطيتها بثوبي. ثم قلت للناس: أصابها شيء وأوهمتهم أن بها علة. قال: ثم أقمت عليها حتى أفاقت فرفعت رأسها فقلت لها: يا أم إبراهيم أي شيء هذه الشهرة؟ فقالت: يا بطال إذا كان هو يقسم الثناء فلمن يتصنع؟
حكمــــــة
كانت بحرية العابدة تبكي وتقول تركتك وأنا رطبة، وأتيتك وأنا حشفة فاقبل الحشفة على ما كان منها. وكان بها مسحة من جمال، وكان الجرع قد أضر بها ومكثت أربعين يوما لم تأكل فيها شيئا إلا شيئا من حمص وكانت مجتهدة وكان لها مجلس تذكر فيه، وكانت إذا تكلمت اضطربت واقشعرت. قالت بحرية: إذا ترك القلب الشهوات ألف العلم واتبعه واحتمل كل ما يرد عليه.
حكمــــــة
عن محمد بن قدامة قال: بلغنا أن امرأة كان يقال لها حسنة تركت نعيم الدنيا فأقبلت على العبادة فكانت تصوم النهار وتحيي الليل وليس في بيتها شيء، كلما عطشت خرجت إلى النهر فشربت بكفيها. وكانت جميلة فقالت لها امرأة: تزوجي فقالت: هات رجلا زاهدا لا يكلفني من أمر الدنيا شيئا وما أظنك تقدرين عليه، فوالله ما في نفسي أن أعبد الدنيا ولا أتنعم مع رجال الدنيا، فإن وجدت رجلا يبكي ويبكيني، ويصوم ويأمرني، ويتصدق ويحضني عليها، فبها ونعمت، وإلا فعلى الرجال السلام.
حكمــــــة
دخل على زجلة العابدة نفر من القراء فكلموها في الرفق بنفسها فقالت: ما لي وللرفق بها؟ فإنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غدا. والله يا إخوتاه لأصلين له ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي. ثم قالت: أيكم يأمر عبده بأمر فيحب أن يقصر فيه؟ عباد بن عباد، أبو عتبة الخواص، قال: دخلنا على زجلة العابدة، وكانت قد صامت حتى اسودت، وبكت حتى عمشت، وصلت حتى أقعدت، وكانت صلاتها قاعدة. فسلمنا عليها ثم ذكرناها شيئا من العفو، أردنا أن نهون عليها الأمر هناك. فشهقت ثم قالت: علمي بنفسي قرح فؤادي، وكلم قلبي. والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئا مذكورا. ثم أقبلت على صلاتها وتركناها فخرجنا من عندها.
حكمــــــة
بكت مطيعة أربعين عاما، فعوتبت على كثرة البكاء فقالت: لا أزال أبكي حتى أعلم على أي الحالين أنا عند الله؟ محمد بن الحسين قال: دخلنا على مطيعة العابدة في الجبان بالبصرة فجعلنا نذاكرها شيئا من الخير فلا نستبين كثيرا من كلامها، من كثرة بكائها. فلما رأينا ذلك خرجنا من عندها وتركناها. قال محمد: وسألت مطيعة قلت: منذ كم أنت ههنا في الجبان؟ فبكت ثم قالت: يا بني منذ أربع وخمسين سنة.
حكمــــــة
كانت أم عثمان بن سودة الطفاوي من العابدات، يقال لها راهبة، قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت: يا ذخري وذخيرتي، ويا من عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبري. قال: فماتت. فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور. قال: فرأيتها ذات ليلة في منامي فقلت: يا أماه كيف أنت؟ قالت: أي بني إن للموت لكربة شديدة وأنا بحمد الله لفي برزخ محمود نفترش فيه الريحان ونتوسد فيه السندسي والإستبرق إلى يوم النشور فقلت: ألك حاجة؟ قالت: نعم. قالت: لا تدع ما أنت عليه من زيارتنا والدعاء لنا فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من عند أهلك، يقال لي: يا راهبة هذا ابنك قد أقبل من أهله زائرا لك فأسر بذلك ويسر ذلك من حولي من الأموات.
حكمــــــة
قال عمار الراهب رأيت مسكينة الطفاوية في منامي وكانت من المواظبات على حلق الذكر، فقلت: مرحبا يا مسكينة مرحبا. فقالت: هيهات يا عمار ذهبت المسكنة وجاء الغنى الأكبر. قلت: هيه.. قالت: ما تسأل عمن أبيح الجنة بحذافيرها يظل منها حيث يشاء. قال: قلت: وبم ذاك يرحمك الله؟ قالت: بمجالس الذكر والصبر على الحق. قال عمار: وكانت تحضر معنا مجلس عيسى بن زاذان بالأبلة، تنجدر من البصرة حتى تأتيه قاصدة. قال عمار: قلت يا مسكينة ما فعل عيسى؟ فضجت ثم قالت: كسي حلة البهاء، وطافت بأباريق حوله الخدام، ثم حلي وقيل: يا قارئ ارق فلعمري لقد برأك الصيام، وكان عيسى قد صام حتى انحى وانقطع صوته.