فوائد من كتاب صفة الصفوة 8
حكمــــــة
زار قيس بن مسلم محمد بن جحادة ذات ليلة فأتاه وهو في المسجد بعد صلاة العشاء، قال: ومحمد قائم يصلي، فقام قيس بن مسلم في الناحية الأخرى يصلي. فلم يزالا على ذلك حتى طلع الفجر. وكان قيس بن مسلم إمام مسجده. قال فرجع إلى الحي فأمهم ولم يلتقيا. ولم يعلم محمد مكانه. قال: فقال له بعض أهل المسجد: زارك أخوك قيس بن مسلم البارحة فلم تنفتل إليه. قال: ما علمت بمكانه. قال: فغدا عليه فلما رآه قيس بن مسلم مقبلا قام إليه فاعتنقه ثم خلوا جميعا فجعلا يبكيان.
حكمــــــة
كان داود الطائي يجالس أبا حنيفة فقال له أبو حنيفة: يا أبا سليمان أما الأداة فقد أحكمناها. قال داود: فأي شيء بقي؟ قال: بقي العمل به. قال: فنازعتني نفسي إلى العزلة والوحدة، فقلت لها: حتى تجلسي معهم فلا تجيبي في مسئلة. قال: فكان يجالسهم سنة قبل أن يعتزل. قال: فكانت المسئلة تجيء وأنا أشد شهوة للجواب فيها من العطشان إلى الماء فلا أجيب فيها. قال: فاعتزلتهم بعد.
حكمــــــة
جاء أبو الربيع الأعرج إلى داود الطائي من واسط ليسمع منه شيئا ويراه فقال له:إني أحببت أن تزودني شيئاقال: إن كنت ضيفا فادخل، فدخلت فأقمت عنده ثلاثة أيام لا يكلمني. فلما كان بعد ثلاث قلت: رحمك الله أتيتك من واسط وإني أحببت أن تزودني شيئا. قال: صم الدنيا واجعل فطرك الموت. قلت: زدني رحمك الله. قال: فر من الناس فرارك من الأسد، غير طاعن عليهم، ولا تارك لجماعتهم. قال: فذهبت أستزيده فوثب إلى المحراب وقال: الله أكبر.
حكمــــــة
قال صدقة الزاهد: خرجنا مع داود الطائي في جنازة بالكوفة، فقعد داود ناحية وهي تدفن فجاء الناس فقعدوا قريبا منه فتكلم فقال: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، واعلم يا أخي أن كل ما يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم، واعلم أن أهل القبور إنما يفرحون بما يقدمون ويندمون على ما يخلفون. وأهل الدنيا يقتتلون ويتنافسون فيما عليه أهل القبور يندمون.
حكمــــــة
قال أبو خالد الأحمر: مررت أنا وسفيان الثوري بمنزل داود الطائي فقال لي سفيان: ادخل بنا نسلم عليه. فدخلنا إليه فما احتفل بسفيان ولا انبسط إليه. فلما خرجنا قلت له: يا أبا عبد الله غاظني ما صنع بك. قال: وأي شيء صنع بي؟ قلت: لم يحفل بك ولم ينبسط إليك. قال: إن أبا سليمان لا يتهم في مودة، أما رأيت عينيه؟ هذا في شيء غير ما نحن فيه.
حكمــــــة
قال رجل من أهل داود الطائي له يوما: ما أبا سليمان قد عرفت الرحم التي بيننا فأوصني قال: فدمعت عيناه. ثم قال يا أخي إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدا أشد تضييعا مني لذلك. ثم قام وتركني.
حكمــــــة
قال أبو عمران: حدثني أسود بن سالم أن داود الطائي كان يقول: سبقني العابدون وقطع بي، والهفاه. خرج داود الطائي إلى السوق فرأى الرطب فاشتهته نفسه فجاء إلى البائع فقال له: أعطني بدرهم إلى غد. فقال له: اذهب إلى عملك. فرآه بعض من يعرفه فأخرج له صرة فيها مائة درهم وقال: اذهب فإن أخذ منك بدرهم فالمائة لك. فلحقه البائع وقال له: ارجع خذ حاجتك. فقال: لا حاجة لي فيه إنما جربت هذه النفس فلم أرها تساوي في هذه الدنيا درهما وهي تريد الجنة غدا.
حكمــــــة
عن إسحاق بن منصور السلولي قال: حدثتني أم سعيد بن علقمة النخعي وكانت طائية. قالت: كان بيننا وبين داود الطائي حائط قصير فكنت أسمع حسه عامة الليل لا يهدأ. قالت: وربما سمعته في جوف الليل يقول: اللهم همك عطل علي الهموم، وحالف بين وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك، أوثق مني وحال بيني وبين اللذات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب. قالت: وربما ترنم بالآية فأرى أن جميع نعيم الدنيا جمع في ترنمه.
حكمــــــة
قال أبو داود الطيالسي: حضرت داود عند الموت فما رأيت أشد نزعا منه، أتيناه من العشي ونحن نسمع نزعه قبل أن ندخل، ثم غدونا إليه وهو في النزع فلم نبرح حتى مات. عن حفص بن عمر الجعفي قال: اشتكى داود الطائي أياما وكان سبب علته أنه مر بآية فيها ذكر النار فكررها مرارا في ليلته فأصبح مريضا. فوجده قد مات ورأسه على لبنة.
حكمــــــة
قال ابن السماك، حين مات داود الطائي: يا أيها الناس إن أهل الدنيا تعجلوا غموم القلب وهموم النفس وتعب الأبدان مع شدة الحساب، فالرغبة متعبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والزهادة راحة لأهلها في الدنيا والآخرة، وإن داود الطائي نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأغشى بصر قلبه بصر العيون فكأنه لم يبصر ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تبصرون ما إليه ينظر. فإنكم منه تعجبون وهو منكم يتعجب
حكمــــــة
لما مات داود الطائي شيع الناس جنازته. فلما دفن قام ابن السماك على قبره فقال: يا داود كنت تسهر ليلك إذ الناس نائمون، قال: وكنت تسلم إذ الناس يخوضون، وكنت تربح إذ الناس يخسرون فقال الناس جميعا: صدقت حتى عدد فضائله كلها. فلما فرغ، قام أبو بكر النهشلي فحمد الله ثم قال:يا رب إن الناس قد قالوا ما عندهم ومبلغ ما علموا، اللهم اغفر له برحمتك ولا تكله إلى عمله.
حكمــــــة
عن يوسف بن أسباط قال: قال لي سفيان، وقد صلينا العشاء الآخرة ناولني المطهرة فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده. ونمت فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت فإذا المطهرة بيمينه ويساره على خده، فقلت: يا أبا عبد الله هذا الفجر قد طلع. قال: لم أزل منذ ناولتني هذه المطهر أتفكر في أمر الآخرة حتى الساعة.
حكمــــــة
قال علي بن حمزة ابن أخت سفيان: ذهبت ببول سفيان إلى الديراني وكان لا يخرج من باب الدير فأريته فقال: ليس هذا بول حنيفي. قلت: بلى والله من أفضلهم. فقال: أنا أجيء معك. فقلت لسفيان: قد جاء بنفسه. فقال: أدخله. فأدخلته فمس وجس عرقه ثم خرج. فقلت: أي شيء رأيت؟ قال: ما ظننت أن في الحنيفية مثل هذا، هذا رجل قد قطع الحزن كبده.
حكمــــــة
عن عبد الرحمن بن مهدي قال ليلة مات سفيان: توضأ تلك الليلة للصلاة ستين مرة فلما كان وجه السحر قال لي: يا ابن مهدي ضع خدي بالأرض فإني ميت يا ابن مهدي ما أشد الموت ما أشد كرب الموت. قال: فخرجت لأعلم حماد بن زيد وأصحابه فإذا هم قد استقبلوني فقالوا: آجرك الله. فقلت: من أين علمتم ذلك؟ فقالوا: إنه ما منا أحد إلا أتي البارحة في منامه فقيل له: ألا إن سفيان الثوري قد مات،رحمه الله.
حكمــــــة
عن أبي أبجر قال: لما حضرت سفيان الوفاة قال: يا ابن أبجر قد نزل ما بي ماقد ترى فانظر من يحضرني. فأتيتهم بقوم فيهم حماد بن سلمة، وكان حماد من أقربهم إلى راسه. قال: فتنفس سفيان فقال له حماد أبشر فقد نجوت مما كنت تخاف. وتقدم على رب كريم قال: فقال: يا أبا سلمة أترى الله أن يغفر لمثلي؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو: قال: فكأنما سري عنه.
حكمــــــة
عن عبد الرحمن بن مهدي قال: رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في اللحد حتى وقفت بين يدي الله عز وجل فحاسبني حسابا يسيرا ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها ولا أسمع حسا ولا حركة، إذ سمعت قائلا يقول: سفيان بن سعيد. قال: تحفظ أنك آثرت الله على هواك يوما، قلت: إي والله. فأخذتني صواني النثار من جميع الجنة.
حكمــــــة
كان حسن بن صالح يصلي إلى السحر ثم يجلس فيبكي في مصلاه ويجلي علي فيبكي معه في حجرته. قال: وكانت أمهما تبكي الليل والنهار. قال: فماتت. ثم مات علي. ثم مات حسن قال: فرأيت حسنا في منامي فقلت: ما فعلت الوالدة؟ قال: بدلت بطول ذلك البكاء سرور الأبد. قلت: وعلي؟ قال: وعلي على خير. قلت: فأنت؟ فمضى وهو يقول: وهل نتكل إلا على عفوه؟
حكمــــــة
عن عبيد الله بن موسى قال: كان حسن بن صالح إذا صعد إلى المنارة أشرف على المقابر فإذا نظر إلى الشمس تحوم على القبور صرخ حتى يحمل مغشيا عليه فينزل به. قال أبو محمد: ورأيت الحسن ذات يوم شهد جنازة فلما قرب الميت ليدفن نظر إلى اللحد فارفض عرقا. ثم قال: فغشي عليه فحمل على السرير الذي كان عليه الميت فرد إلى منزله.
حكمــــــة
عن عمرو بن حفص عن أبيه قال: كنا ذات يوم عند ابن ذر وهو يتكلم فذكر رواجف القيامة وزلزالها. فوثب رجل من بني عجل، يقال له وراد، فجعل يبكي ويصرخ ويضطرب فحمل من بين القوم صريعا: فقال ابن ذر: ما الذي قصر بنا وكلم قلبه حتى أبكاه؟ والله إن هذا يا أخا بني عجل إلا من صفاء قلبك وتراكم الذنوب على قلوبنا.
حكمــــــة
قال عمر: قال أبي: وكنت أرى ورادا هذا العجلي يأتي إلى المسجد مقنع الرأس فيعتزل ناحية فلا يزال مصليا وباكيا وداعيا ما شاء الله من النهار ثم يخرج فيعود فيصلي الظهر، فهو كذلك بين صلاة وبكاء حتى يصلي العشاء ثم يخرج لا يكلم أحدا ولا يجلس إلى أحد، فسألت عنه رجلا من حيه ووصفته له قلت: شاب من صفته، من هيئته. فقال: بخ يا أبا عمر، أتدري عمن تسأل؟ ذاك وراد العجلي، ذاك الذي عاهد الله ألا يضحك حتى ينظر إلى وجه رب العالمين. قال أبي: وكنت إذا رأيته بعد هبته.
حكمــــــة
قال سكين: فلما مات وراد فحمل إلى حفرته نزلوا إليه ليدفنوه في حفرته فإذا اللحد مفروش بالريحان، فأخذ بعض القوم الذين نزلوا إلى القبر من ذلك الريحان شيئا فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير. يغدو الناس ويروحون وينظرون إليه: قال: فكثر الناس من ذلك حتى خاف الأمير أن يفتتن الناس، فأرسل إلى الرجل فأخذ ذلك الريحان وفرق الناس. قال: وفقده الأمير من منزله لا يدري كيف ذهب؟
حكمــــــة
عن أحمد بن محمد بن مسروق قال: سمعت الحماني يقول: لما حضرت أبا بكر بن عياش الوفاة بكت أخته فقال لها: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية التي في البيت قد ختم أخوك في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة. عن إبراهيم بن عياش قال: بكيت عند أبي حين حضرته الوفاة فقال: ما يبكيك؟ أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة، يختم القرآن كل ليلة؟ عن الهيثم بن خارجة قال: رأيت أبا بكر بن عياش في النوم، قدامه طبق رطب مسكر. فقلت له: يا أبا بكر ألا تدعونا وقد كنت سخيا على الطعام؟ فقال لي: يا هيثم هذا طعام أهل الجنة لا يأكله أهل الدنيا. قال قلت: وبم نلت؟ قال تسألني عن هذا وقد مضت علي ست وثمانون سنة أختم في كل ليلة منها القرآن؟...
حكمــــــة
ابن أبي عمر العدني بمكة: قدم علينا هارون قدمة إلى هذا المسجد، فقال سل عن حسين بن علي الجعفي. فلقيت رجلا فقلت: حسين بن علي الجعفي. فقال: ها هو ذا يطلع عليك راكبا حمارا وخلفه أسود يقود أجمالا له، فإذا هو قد طلع فقلت: هذا هو يا أمير المؤمنين. فلما حاذاه قام إليه فقبل يده، أو قال: رجله، فقال له جعفر بن يحيى: يا شيخ تدري من المسلم عليك؟ أمير المؤمنين هارون. فالتفت إليه حسين فقال له: أنت يا حسن الوجه، أنت مسئول عن هذا الخلق كلهم فقعد يبكي.
حكمــــــة
كان ابن السماك يقول: يا ابن آدم إنما تغدو في كسب الأرباح فاجعل نفسك فيما تكسبه فإنك لم تكسب مثلها. قال يحيى بن خالد البرمكي لابن السماك: إذا دخلت على هارون أمير المؤمنين فأوجز ولا تكثر عليه. قال: فلما دخل عليه وقام بين يديه قال: يا أمير المؤمنين إن لك بين يدي الله تعالى مقاما وإن لك من مقامك منصرفا، فانظر إلى أين منصرفك، إلى الجنة أم إلى النار؟ قال: فبكى هارون حتى كاد يموت.
حكمــــــة
قال ابن السماك إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟ ولعلك تذكره بأمر، فيك أعظم منه، قذلك أشد استحكاما لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه فهذا جزاؤه إذ عافاك. أما سمعت: ارحم أخاك واحمد الذي عافاك؟ الحسين بن عبد الرحمن قال: كان ابن السماك يقول: من أذاقته الدنيا حلاوتها لميله إليها جرعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها.