فوائد من كتاب الفوائد 2
حكمــــــة
لا يتم الوصول إلا بترك ثلاثة أشياء : العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس . الثاني : هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها . الثالث : قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعلق بالمطلوب . والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها. وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة، فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه، والله المستعان .
حكمــــــة
للراحة حد وهو إجماع النفس والقوى المدركة والفعالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث لا يضعفها الكد والتعب ويضعف أثرها، فمتى زاد على ذلك صار توانيا وكسلا وإضاعة وفات به أكثر مصالح العبد، ومتى نقص عنه صار مضرا بالقوى موهنا لها وربما انقطع به كالمنبتِّ الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
حكمــــــة
الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب ألما وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتا إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضا توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تذهب مالا بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضيع قدرا وجاها قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقا لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هما وغما وحزنا وخوفا لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسى علما ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تشمت عدوا وتحزن وليا وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيبا يبقى صفة لا تزول، فإن الأعمال تورث للصفات والأخلاق.
حكمــــــة
قوله تعالى: ((وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون))( البقرة : الآية رقم : (216).) في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعاقب
حكمــــــة
مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، قال تعالى((فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون))( سورة البقرة، الآية: 152.)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة : اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " ، وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان بل القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته وذكر أمره ونهيه وذكره بكلامه، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح. وذلك لا يتم إلا بتوحيده. فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه
حكمــــــة
والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر. ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة. إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلا ولأيامك وأنفاسك أمداً، ومن كل ما سواه بد ولا بد لك منه.
حكمــــــة
سر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: توكلت على الله، مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء، فقول العبد: توكلت على الله مع اعتماد قلبه على غيره، مثل قوله: تبتُ إلى الله، وهو مصر على معصيته مرتكب لها.
حكمــــــة
لا تتـم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: النظر الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، مع ما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد. النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا.
حكمــــــة
كل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة، إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل.إذا آثر الفاني الناقص كان ذلك، إما لعدم تبيّن الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة. فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثِر لها، إما أن يصدّق بأن هناك أشرف وأفضل وأبقى، وإما أن لا يصدق، فإن لم يصدّق بذلك كان عادماً للإيمان رأساً، وإن صدّق بذلك ولم يؤثره، كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.
حكمــــــة
أفضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ) وقوله (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه والمؤهلون للمراتب العالية
حكمــــــة
يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله، أما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليُمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب، فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة، قال ابن سيرين: سمعت شريحاً يحلف بالله، ما ترك عبد لله شيئاً فوجد فقـده، وقولهم: من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه حق، والعِوض أنواع مختلفة، وأجل ما يُعوض به الإنس بالله ومحبته وطمأنينة القلب به وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى
حكمــــــة
عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها: علم لا يعمل به، وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء، ومال لا ينفق منه، فلا يستمتع به جامعه في الدنيا ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة، وقلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به، وبدن معطل من طاعته وخدمته، ومحبة لا تتقيد برضا المحبوب وامتثال أمره، ووقت معطل عن استدراك فارط أو اغتنام بر وقربة، وفكر يجول فيما لا ينفع، وخدمة مَن لا تقربك خدمته إلى الله، ولا تعود عليك بصلاح دنياك، وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله وهو أسير في قبضته ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
حكمــــــة
التعبد لله بالنعم أن يستكثر قليلها عليه، ويستقل كثيره شكره عليها، ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها ولا وسيلة منه توسل بها إليه ولا استحقاق منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد، فلا تزيده النعم إلا انكساراً وذلاً وتواضـعاً ومحبة للمنعـم، وكلما جـدّد له نعمـة أحدث لها عبودية ومحبة وخضـوعاً وذلاً.
حكمــــــة
من ترك الاختيار والتدبير في رجاء زيادة أو خوف نقصان أو طلب صحة أو فرار من سقم، وعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المنفرد بالاختيار والتدبير، وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه بنفسه، وأبرّ به منه بنفسه،........... وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه، استراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات
حكمــــــة
قال تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) وقال (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) فأخبر عن آياته المشهودة العيانية أنها إنما ينتفع بها أهل الصبر والشكر، كما أخبر عن آياته الإيمانية القرآنية أنها إنما ينتفع بها أهل التقوى والخشية والإنابة ومَن كان قصده اتباع رضوانه، وأنها إنما يتذكر بها من يخشاه سبحانه كما قال (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) وقال في الساعة (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا). وأما من لا يؤمن بها ولا يرجوها ولا يخشاها فلا تنفعه الآيات العيانية ولا القرآنية، ولهذا لما ذكر سبحانه في سورة هود عقوبات الأمم المكذبين للرسل وما حل بهم في الدنيا من الخزي، قال بعد ذلك (إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة) فأخبر أن في عقوباته للمكذبين عبرة لمن خاف عذاب الآخرة
حكمــــــة
العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملاً وقبِل أوامره وصدق بأخباره، كان ذلك سبباً لهداية أخرى تحصل له على التفصيل، فإن الهداية لا نهاية ولو بلغ العبد فيها ما بلغ، فكلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى، فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى. قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) فهداهم أولاً للإيمان، فلما آمنوا هداهم للإيمان هداية بعد هداية، ونظير هذا قوله تعالى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) ومن الفرقان ما يعطيهم من النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل، والنصر والعز الذي يتمكنون به من إقامة الحق وكسر الباطل.
حكمــــــة
لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت. فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخـلاص
حكمــــــة
أركان الكفر أربعة: الكبر والحسد والغضب والشهوة، فالكبْر يمنعه الانقياد، والحسد يمنعه النصيحـة وبذلها، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة. فإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع، وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعبادة.
حكمــــــة
معرفة الله سبحانه نوعان: الأول: معرفة إقرار وهي التي اشترك فيها الناس البر والفاجر والمطيع والعاصي. والثاني: معرفة توجب الحياء منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه، وهذه هي المعرفة الخاصة الجارية على لسان القوم. ولهذه المعرفة بابان واسعان: الباب الأول: التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله. والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة وتأمل حكمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط على خلقه.
حكمــــــة
ليس للعبد شيء أنفع من صدقهِ ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة، فيصدُقُه في عزمه وفي فعله، قال تعالى (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل، فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوّم، فإذا صدقت عزيمته بقي عليه صدْق الفعل، وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه، وأن لا يتخلف عنه بشيء من ظاهره وباطنه، فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور.
حكمــــــة
كل ذي لب يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث جهات: أحدها: التزيد والإسراف، فيزيد على قدر الحاجة فتصير فضلة وهي حظ الشيطان ومدخله إلى القلب. وطريق الخلاص منه: الاحتراز من إعطاء النفس تمام مطلوبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة، فمتى أغلقت هذا الباب حصل الأمان من دخول العدو منه. الثانية: الغفلة، فإن الذاكر في حصن الذكر، فمتى غفل فتح باب الحصن فولجه العدو فيعسر عليه أو يصعب إخراجه. الثالثة: تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء
حكمــــــة
قوله تعالى (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل