الزواجر عن اقتراف الكبائر - 5
قال نبي لأتباعه : من يتكفل لي منكم أن لا يغضب يكن خليفتي ومعي في درجتي في الجنة ، فقال شاب : أنا فأعاد فقال ذلك الشاب : أنا ووفى ، فلما مات كان خليفته في منزلته وهو ذو الكفل سمي به لأنه تكفل نفسه أن لا يغضب ووفى به ، وقيل : لأنه تكفل بقيام الليل وصيام النهار ووفى به .
قال وهب : للكفر أركان أربعة : الغضب والشهوة والخلف والطمع ، ويؤيده أن بعض الصحابة حمله الغضب على أن ارتد عن الإسلام ومات كافرا ، فتأمل شر الغضب وما يحمل عليه .
قال بعضهم : أقل الناس غضبا أعقلهم فإن كان للدنيا كان دهاء ومكرا ، وإن كان للآخرة كان علما وحكما .
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله : لا تعاقب غضبك بل احبسه فإذا سكن غضبك عاقبه بقدر ذنبه ولا تجاوز به خمسة عشر سوطا . وأغلظ له قرشي فأطرق طويلا ، ثم قال : أردت أن يستفزني الشيطان لعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه وأمانته عند طمعه ، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب ، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع .
قال مجاهد : قال إبليس : ما أعجزني بنو آدم فلن يعجزوني في ثلاث : إذا سكر أحدهم أخذنا بخرامته فقدناه حيث نشاء وعمل لنا بما أحببنا ، وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم ، وإذا بخل بما في يده منيناه بما لا يقدر عليه .
قال بعض الأنصار : رأس الحمق الحدة وقائده الغضب ، ومن رضي بالجهل استغنى عن الحلم ، والحلم زين ومنفعة والجهل شين ومضرة ، والسكوت عن جواب الأحمق سعادة .
عن وهب بن منبه رضي الله عنه : أن راهبا في صومعته أراد الشيطان أن يضله فعجز عنه فناداه ليفتح له فسكت ، فقال : إن ذهبت ندمت فسكت ، فقال : أنا المسيح ، فأجابه وقال : إن كنت المسيح فما أصنع بك ؟ ألست قد أمرتنا بالعبادة والاجتهاد ووعدتنا القيامة ، فلو جئتنا اليوم بغير ذلك لم نقبله منك ، فأخبر أنه الشيطان جاء ليضله فلم يستطع ، ثم قال : له سلني عما شئت أخبرك ، قال : ما أريد أن أسألك عن شيء فولى الشيطان مدبرا ، فقال له الراهب : ألا تسمع قال : بلى . قال : أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم ؟ قال : الحدة إن الرجل إذا كان حديدا قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة .
عن ذي القرنين : أنه لقي ملكا وقال : له علمني علما أزداد به إيمانا ويقينا ، قال : لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب فرد الغضب بالكظم وسكنه بالتؤدة ، وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك وكن سهلا لينا للقريب وللبعيد ولا تكن جبارا عنيدا .
قال عكرمة في قوله تعالى : { وسيدا وحصورا } . السيد : الذي لا يغلبه الغضب . وقال يحيى لعيسى - صلى الله على نبينا وعليهما وسلم - : لا تغضب ، قال يا أخي لا أستطيع أن لا أغضب إنما أنا بشر ، قال : لا تقتن مالا .
قال سليمان بن داود صلى الله على نبينا وعليهما وسلم : يا بني إياك وكثرة الغضب فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم .
قال الله تعالى : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها } ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل ، ومدح المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة والطمأنينة الناشئ عنها إلزامهم كلمة التقوى وأنهم هم أهلها وأحق بها .
لما كانت هذه الثلاثة بينها تلازم وترتب إذ الحسد من نتائج الحقد ، والحقد من نتائج الغضب كانت بمنزلة خصلة واحدة ، فلذلك جمعتها في ترجمة واحدة لأن ذم كل يستلزم ذم الآخر إذ ذم الفرع وفرعه يستلزم ذم الأصل وأصله وبالعكس .
سئل بعض الأئمة من المخلص ؟ فقال : المخلص الذي يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ، وسئل آخر ما غاية الإخلاص ؟ قال : أن لا تحب محمدة الناس .
من صبر علي الرياء مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وأمده الله تعالى فيه من فضله ما يكون سببا لرقيه { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } فمن العبد المجاهدة وقرع باب الكريم ، ومن الله تعالى الهداية والفتح إن الله لا يضيع أجر المحسنين : { ، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } .
لو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكفى في شؤمه وضرره ، فقد يحتاج الإنسان في الآخرة إلى عبادة ترجح بها كفة حسناته ، وإلا ذهب به إلى النار ، ومن طلب رضا الخلق في سخط الله تعالى سخط عليه وأسخطهم عليه أيضا على أن رضاهم غاية لا تدرك وما أرضى قوما إلا أغضب آخرين ، ثم أي غرض له في مدحهم وإيثاره على ذم الله وغضبه مع أن مدحهم لا يفيده نفعا ولا يدفع عنه ضرا .
ينادى على رءوس الخلائق يوم القيامة ويقال للمرائي : يا فاجر ، يا غادر ، يا مرائي أما استحييت إذا اشتريت بطاعة الله تعالى عرض الحياة الدنيا ، راقبت قلوب العباد واستهزأت بنظر الله تعالى وطاعته ، وتحببت إلى العباد بالتبغيض إلى الله - تعالى - ، وتزينت لهم بالشين عند الله تعالى ، وتقربت إليهم بالبعد من الله تعالى .
الرياء جدير بأن يشمر كل موفق عن ساق الجد في إزالته بالمجاهدة وتحمل المشاق الشديدة والمكابدة لقوة الشهوات ، إذ لا ينفك أحد عن الاحتياج لذلك إلا من رزق قلبا سليما نقيا خالصا عن شوائب ملاحظة الأغراض والمخلوقين ، ومستغرقا دائما في شهود رب العالمين ، وقليل ما هم . .
الرياء في أمور ثلاثة : الولايات وهي أعظمها آفة فليتركها الضعفاء رأسا ، والصلوات ونحوها فلا ينبغي أن يتركها الضعفاء ولا الأقوياء ، ولكن يجاهدون في دفع شوائب الرياء عنها ، والتصدي للعلوم ، وهي مرتبة وسطى بين تينك المرتبتين لكنها بالولايات أشبه ، وإلى الآفات أقرب فالحذر منها في حق الضعيف أسلم . وبقيت مرتبة رابعة وهي جمع المال ، وإنفاقه ، فمن العلماء من فضله على الاشتغال بالذكر والنوافل ، ومنهم من عكس ؛ والحق أن فيه آفات عظيمة كطلب الثناء ، واستجلاب القلوب وتميز النفس بالإعطاء .
استأذن رجل عمر رضي الله عنه أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة الصبح فمنعه ، فقال : تمنعني من نصح الناس ؟ فقال : أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا ، فينبغي أن لا يغتر الإنسان بما جاء في فضائل التذكير بالله والعلم لأن خطره عظيم ، ولسنا نأمر أحدا بتركه إذ ليس فيه نفسه آفة إنما الآفة في إظهاره بالتصدي له وعظا ، وإقراء وإفتاء ورواية .
كثيرين ربما يتركون الطاعات خوف الرياء ، وليس ذلك بمحمود مطلقا ، فإن الأعمال إما لازمة للبدن لا تتعلق بالغير ولا لذة في عينها كالصلاة والصوم والحج ، فإن كان باعث الابتداء فيها رؤية الناس وحدها فهذا محض معصية فيجب تركه ولا رخصة فيها على هذه الكيفية ، وإن كان الباعث نية التقرب إلى الله تعالى ؛ لكن عرض الرياء عند عقدها شرع فيها وجاهد نفسه في دفع ذلك العارض ، وكذا لو عرض في أثنائها فيرد نفسه للإخلاص قهرا حتى يتمها فإن الشيطان يدعوك أولا إلى الترك ، فإذا عصيته وعزمت وشرعت دعاك للرياء ، فإذا أعرضت عنه وجاهدته إلى أن فرغت ندمك حينئذ ، وقال : لك أنت مراء ، ولا ينفعك الله بهذا العمل شيئا حتى تترك العود إلى مثل ذلك العمل فيحصل غرضه منك فكن منه على حذر فإنه لا أمكر منه .
قد يمدح الإظهار فيما يتعذر الإسرار فيه كالغزو والحج والجمعة والجماعة ، فالإظهار المبادرة إليه ، وإظهار الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شائبة رياء .
في كتم العمل فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء وفي إظهاره فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء ، وقد أثنى الله على القسمين فقال - عز قائلا - : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } لكنه مدح الإسرار لسلامته من تلك الآفة العظيمة التي قل من يسلم منها .
المخلص يشهد أنه لما ستر الله قبيحه وأظهر جميله في الدنيا فكذلك يفعل معه في الآخرة . لخبر : { ما ستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة } أو بأن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره فيكون له أجر العلانية بما ظهر آخرا وأجر السر بما قصده أولا .
ليس كل شوب من الرياء مفسدا للعمل ومحبطا له ، بل السرور إما محمود بأن يشهد أن الله أطلعهم عليه إظهارا لجميل أحواله ولطفه به ، فإنه في نفسه يستر طاعته ومعصيته ، ثم الله تعالى يستر معصيته ويظهر طاعته ولا لطف أعظم من ستر القبيح ، وإظهار الجميل فيكون فرحه بجميل نظر الله ولطفه به لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } .
المخلصون علموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأن لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، ولا يجزي والد عن ولده ولا مولود عن والده ، ويشتغل الصديقون بأنفسهم ، فيقول كل واحد منهم : نفسي نفسي ، فضلا عن غيرهم ، وكل من وجد في نفسه فرقا بين اطلاع الصغار والمجانين واطلاع غيرهم على عباداته فعنده شوب من الرياء . إذ لو علم أن الله هو النافع الضار القادر على كل شيء وغيره هو العاجز عن كل شيء لاستوى عنده الصغار وغيرهم ، ولم تتأثر نفسه بحضور كبيرهم ولا صغيرهم
لم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي يشهدون ذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون على إخفائها أعظم ما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم . كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم فيجازيهم الله في القيامة على ملإ من الخلائق إذ علموا أن الله تعالى لا يقبل في القيامة إلا الخالص .