1. فوائد من كتاب ورثة الأنبياء لعبد الملك بن محمد عبد الرحمن القاسم
حكمــــــة
أثنى الله عز وجل على العلم وأهله، ورتب لمن سار في طريقه الأجر والمثوبة ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة. ومن إكرام الله عز وجل للعلماء استشهاده بهم على أعظم مشهود به وأجله وهو توحيده، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة. قال الله عز وجل: " شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ " (سورة آل عمران، الآية: 18). قال الإمام القرطبي رحمه الله: في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن العلماء(الجامع لأحكام القرآن 4/41).
حكمــــــة
رفع الله جل وعلا درجة المؤمنين العالمين فوق درجة جهلة المؤمنين (وفي كل خير) فقال تعالى: " يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ " (سورة المجادلة، الآية: 11). قال الشوكاني: " يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ " في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما " وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ " أي: ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، ومعنى الآية: أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويـرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات(فتح القدير) ولاشك أن ذلك من فضل الله وإحسانه ومنه وعطائه " ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَّشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " (سورة الحديد، الآية: 21).لاختلاف تلك المنازل والدرجات فإن الله عز وجل نفى التسوية بين أهل العلم والعوام، فقال عز من قائل عليماً: " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ " سورة الزمر، الآية: 9.
حكمــــــة
روي عن زيد بن أسلم رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: " نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ " (سورة الأنعام، الآية: 38)، قال: بالعلم؛ لأن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم(فتح الباري). وفي ذلك قال الله عز وجل مخاطباً نبينا محمداً عليه أفضل وأزكى التسليم: " وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا " (سورة طه، الآية: 114).
حكمــــــة
بين النبى صلى الله عليه وسلم حالة طالب العلم وفضل طلب العلم على غيره من نوافل العبادات، فقال صلى الله عليه وسلم مخاطباً أبا ذر: «يا أبا ذر! لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم باباً من العلم عمل أو لم يعمل به خير من أن تصلي ألف ركعة»(رواه ابن ماجه بإسناد حسن كما قال المنذري).
حكمــــــة
قال النبى صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب، وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»(رواه أحمد وابن حبان) قال ابن رجب: يعني أنهم ورثوا ما جاء به الأنبياء من العلم، فهم خلفوا الأنبياء في أممهم بالدعوة إلى الله وإلى طاعته، والنهي عن معاصي الله والذود عن دين الله.
حكمــــــة
يبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن العالم الذي ينشر علمه ويعلمه الناس، له مثل أجر من عمل بهذا العلم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً. وهذه منة عظيمة وفضل كبير؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً»(رواه مسلم). وأي عطاء أعظم من هذا؟! به تقر الأعين، وتتحرك النفوس متطلعة إليه لما فيه من الأجر العظيم والثواب الجزيل.
حكمــــــة
قال سفيان بن عيينة: أتدرون ما مثل العلم؟ مثل دار الكفر ودار الإسلام؛ فإن ترك أهل الإسلام الجهاد جاء أهل الكفر فأخذوا الإسلام، وإن ترك الناس العلم صار الناس جهالاً(حلية الأولياء). وتلك الخطوات التي يسير بها طالب العلم في طريق تحصيله له فيها أجر عظيم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم، إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع حتى يرجع» (رواه أحمد وابن ماجه).
حكمــــــة
قال الإمام الخطابي: ومعنى أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم أحد ثلاثة وجوه: أولها: أنه بسط الأجنحة، والثاني: أنه كناية عن تواضعها تعظيماً لطالب العلم، والثالث: أن المراد ترك الطيران والنزول عند مجالس العلم لأجل استماع العلم(معالم السنن) وكل منزلة من هذه الوجوه فيها من الشرف والعز ما تطمح إليه النفوس وتتشوق إليه. وكفى بالمرء حباً للعلم وطلبه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»(رواه البخاري).
حكمــــــة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفضيل العالم على العابد: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي»(رواه الترمذي) فانظر كيف جعل العلم مقارناً لدرجة النبوة، وكيف حط رتبة العمل المجرد عن العلم، وإن كان العابد لا يخلو من علم بالعبادة التي يواظب عليها، ولولاه لم تكن عبادة(الإحياء) والإسلام دين ينبذ الجهل، ويحث على طلب العلم، ويرتب الأجر والمثوبة على ذلك.
حكمــــــة
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: اعلم أن طلب العلم فريضة، وأنه شفاء للقلوب المريضة، وأن أهم ما على العبد معرفة دينه، الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار، أعاذنا الله منها(حاشية ثلاثة الأصول للشيخ عبد الرحمن بن قاسم) ويكفي هذا الأمر داعياًَ إلى طلب العلم فإنه طريق للجنة وموصل إلى أبوابها.
حكمــــــة
دعا رسول الله صلى الله عليه لمن يطلب العلم بالنضرة (وهي بهاء الوجه وجلاله) فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه»(رواه الترمذي) وعلى هذا المنهج الرباني سارت الأمة رجالاً ونساء في قافلة العلم والحث عليه ومعرفة قدره.
حكمــــــة
أيها الحبيب: اجتهد في طلب العلم، واحرص على النهل من معينه والعمل به، ثم عليك بتبليغه وإيصاله إلى الناس امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية»(رواه البخاري)؛ فإننا في زمن اندرست فيه معالم الهدى، وظل أكثر الناس جهلاً، ولم يبق إلا ندرة من العلماء الربانيون؛ أعلام الهدى ومصابيح الدجى. والعلم الذي تضرب له أكباد الإبل، وتطوى له الأرض، وتثنى لأجله الركب: هو العلم الشرعي الصحيح المستمد من الكتاب والسنة وبفهم السلف الصالح، وهو العلم الذي يوصل إلى تقوى الله ومراقبته وخشيته، ويدل على طاعة الله عز وجل ومعرفة حدوده وأحكامه، ويوصل إلى الجنة ويبعد عن النار.
حكمــــــة
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أما العلم النافع فهو العلم المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين، وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الإنسان، وتعيين ذلك يختلف باختلاف الأحوال(بهجة قلوب الأبرار).
حكمــــــة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وأكمل أنواع طلب العلم أن تكون همة الطالب مصروفة في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم وفهم مـقاصـد الرسـول في أمـره ونهيه وسائر كلامه، واتـباع ذلك وتقديمه على غيره، وليعتصم في كل باب من أبواب العلم بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة الجوامع.
حكمــــــة
إن النية الصالحة والهمة العالية نفس تضيء، وهمة تتوقد، واعلم أن من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد، وإن سلع المعالي غالية الثمن.فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة. والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار؛ فالنفوس العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك، والنفوس الحقيرة بالضد من ذلك(الفوائد).
حكمــــــة
أنزل الإمام الشافعي العلماء منازلهم وأثر تلك العلوم عليهم وعلى طبائعهم سلوكهم، فقال رحمه الله تعالى: من تعلم القرآن عـظمت قيمته، ومن تعلم الفقه نبل مقداره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن تعلم العربية رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.وأول تلك العلوم وأسماها منزلة وأشرفها قدراً وأنبلها هدفاً كتاب الله عز وجل الذي فيه الآيات المحكمات والسور المنزلات. فهو النور وهو الشفاء وهو الحكمة.
حكمــــــة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مؤكداً على ذلك وحاثاً عليه: وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علماً، وهو إما باطل أو قليل النفع. وهو أيضاً مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم، حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم، من الكلام أو الجدال، والخلاف أو الفروع النادرة والتقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم بها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله(الفتاوى الكبرى).
حكمــــــة
قال أبو عمر بن عبد البر: طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً زل.فأول العلم حفظ كتاب الله جل وعز وتفهمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه، ولا أقول: إن حفظه كله فرض، ولكن أقول: إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالماً ليس من باب الفرض(جامع بيان العلم وفضله).
حكمــــــة
قال الإمام النووي رحمه الله: وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز؛ فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن، وإذا حفظ فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالاً يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنسيان(مقدمة المجموع شرح المهذب).وينبغي أن يبدأ في دروسه وحفظه ومذاكرته بالأهم فالأهم، فأول ما يبتدئ به القرآن العظيم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن(المجموع).
حكمــــــة
قال أبو سعيد: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا مجلساً كان حديثهم الفقه إلا أن يقرأ رجل سورة أو يأمروا رجلاً أن يقرأ سورة(رواه البيهقي). وانظر إلى الفقه في الدين وحاجة هذا الدين إلى العلم والعمل على هدى وبصيرة فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة(الإحياء).
حكمــــــة
قال الخطيب البغدادي: طلب الحديث في هذا الزمان أفضل من سائر أنواع التطوع لأجل دروس السنن وخمولها، وظهور البدع واستعلاء أهلها(شرف أصحاب الحديث). هذا في زمانه، فكيف بزماننا الذي رفع الجهل فيه رايته، وأطلت علينا البدع بأعناقها، وأصبح العلماء أندر من الكبريت الأحمر؟ فهذا زمن التشمير لطلب العلم ونثره بين الناس ونشره في الآفاق، لتحيا الأمة، وتهب من غفلتها، وتستعيد مجدها ورفعتها.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل إذا فرغ من إصلاح سريرته أن يثني بطلب العلم والمداومة عليه، إذ لا وصول للمرء إلى صفاء شيء من أسباب الدنيا إلا بصفاء العلم فيه، وحكم العاقل أن لا يقصر في سلوك حالة توجب له بسط الملائكة أجنحتها رضاً بصنيعه ذلك، ولا يجب أن يكون متأملاً في سعيه الدنو من السلاطين، أو نوال الدنيا به، فما أقبح بالعالم التذلل لأهل الدنيا! (روضة العقلاء).
حكمــــــة
قال الحسن البصري رحمه الله: باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها. لان ذلك سبب نجاته وفلاحه كما قال ابن الجوزي: اعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة، وقد لبس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم، لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم(تلبيس إبليس).
حكمــــــة
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن تكرار القرآن والفقه أيهما أفضل وأكثر أجراً. فأجاب: الحمد لله، خير الكلام كلام الله، لا يقاس به كلام الخلق؛ فإن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. وأما الأفضل في حق الشخص، فهو بحسب حاجته ومنفعته، فإن كان يحفظ القرآن وهو محتاج إلى تعلم غيره، فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها، وكذلك إذا كان حفظ من القرآن ما يكفيه وهو محتاج إلى علم آخر، وكذلك إن كان قد حفظ القرآن أو بعضه، وهو لا يفهم معانيه فتعلمه لما يفهمه من معاني القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه. وأما من تعبد بتلاوة الفقه فتعبده بتلاوة القرآن أفضل، وتدبره لمعاني القرآن أفضل من تدبره لكلام لا يحتاج إلى تدبره، والله أعلم(مجموع الفتاوى).
حكمــــــة
من أعظم أسباب الحرمان والشقاء هو الإعراض عن طلب العلم ومجالسة العلماء والاستماع إليهم، فهذا ابن القيم يقول: أعظم الأسباب التي يحرم بها العبد من خيري الدنيا والآخرة، ولذة النعيم في الدارين، ويدخل عليه عدوه منها، هما الغفلة المضادة للعلم والكسل المضاد للعزيمة والإرادة، هذان هما أصل بلاء العبد وحرمانه، أما الغفلة فمضادة للعلم، وقد ذم الله سبحانه أهل الغفلة فقال: " وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ " (سورة الأعراف، الآية: 205)، وقال: " وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا " (سورة الكهف، الآية: 28).فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل جميل، ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل(الفوائد).
حكمــــــة
لاشك أن الأصل في الإنسان الجهل وعدم المعرفة؛ قال الله تعالى: " وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا " (سورة النحل، الآية: 78).واكتساب العلم لا يمكن أن يحصل بين عشية وضحاها، ولا يمكن أن يصبح الإنسان عالماً بين ليلة وأخرى، بل لابد من السعي والصبر وتحمل الأسفار، وثني الركب في حلق العلم، ومداومة الحفظ والتكرار، ولأن في ذلك جهداً ومجاهدة وصبراً ومصابرة قل من يرد ماءه ويصبر على طول أيامه. ولهذا قل العلماء وكثر الجهال الذين هم موتى بجهلهم وعدم علمهم. أراد بشر بن الحارث الدخول إلى المقبرة فقال: الموتى داخل السور أكثر منهم خارج السور(صفة الصفوة). وهذه الكثرة من الأموات نتيجة للجهل وهجر العلم الشرعي.
حكمــــــة
قال ابن الجوزي: إن التزود من العلم النافع سبب رئيسي في دفع مكائد الشيطان، وكلما ازداد العبد علماً نافعاً ـ ما يورث خشية الله وتقواه ـ كلما ازداد سلامة من نزغات الشيطان ومكايده، فأنت ترى مثلاً أن أدنى عقبات الشيطان أن شغل العبد بالأعمال المرجوحة والمفضولة عن الأعمال الراجحة والفـاضلة. وعـلاج ذلك بالفقه في الأعمال، والعلم بمراتب الطاعات عند الله تعالى، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين مفضولها وفاضلها، فإن في الطاعات سيداً ومسوداً، ورئيساً ومرءوساً(مدارج السالكين).
حكمــــــة
قال ابن الجوزي: ترك العلم غفلة، والإعراض عنه جهالة؛ فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عن تلمح العواقب، فمن ذلك أن التكاسل في طلب العلم وإيثار عاجل الراحة يوجب حسرات دائمة لا تفي لذة البطالة بمعشار تلك الحسرة، ولقد كان يجلس إليَّ أخي وهو عامي فقير، فأقول في نفسي: قد تساوينا في هذه اللحظة، فأين تعبي في طلب العلم وأين لذة بطالته؟ (الآداب الشرعية).
حكمــــــة
مر أحمد بن حنبل جائياً من الكوفة، وبيده خريطة فيها كتب، فأخذت بيده فقلت: مرة إلى الكـوفة! ومرة إلى البصرة! إذا كتب الرجل ثلاثين ألف حديث لم يكفه؟ فسكت، ثم قلت: ستين ألفاً؟ فسكت، فقلت: مائة ألف؟ فقال: حينئذ يعرف شيئاً. قال أحمد بن منيع: فنظرنا فإذا أحمد كتب ثلاثمائة ألف(مناقب الإمام أحمد).
حكمــــــة
كتب عبد الله العمري العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، كتب إليه الإمام مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد. فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر (السير).
حكمــــــة
إن صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادة اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى(أعلام الموقعين).
حكمــــــة
يقول الإمام ابن الجوزي صاحب التوجيهات والنصائح: أما العالم فلا أقول له: اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه، بل أقول له: قدم المهم، فإن العالم من قدر عمره، وعمل بمقتضاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب، فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زاداً، وإن مات قبل الوصول فنيته تسلك به. فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وإن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث ونسخه؛ ليحصل كل طريق وكل رواية وكل غريب! وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة، خصوصاً إن تشاغل بالنسخ، ثم لا يحفظ القرآن، أو يتشاغل بعلوم القرآن ولا يعرف الحديث، أو بالخلاف في الفقه، ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة (صيد الخاطر).
حكمــــــة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد كلام منثور كالدرر: لكن جماع الخير أن يستعين بالله في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علماً، وما سواه إما أن يكون علماً فلا يكون نافعاً، وإما أن لا يكون علماً، وإن سمي به، وإن كان علماً نافعاً فلابد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه، ولتكن همته فهم مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وسائر كلامه، فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه. وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم (مجموع الفتاوى).
حكمــــــة
حفظ أحمد بن حنبل القرآن في صباه، وتعلم القراءة والكتابة، ثم اتجه إلى الديوان يمر على التحرير ويقول في نفسه: كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب ثم أختلف إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة. وكانت نشأته فيها آثار النبوغ والرشد حتى قال بعض الأدباء: وأنا أنفق على ولدي، وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، انظروا كيف؟ وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقه.
حكمــــــة
يتحدث ابن الجوزي عن نفسه فيقول: إن أكثر الإنعام علي لم يكن بكسبي، وإنما هو من تدبير اللطيف بي، فإني أذكر نفسي ولي همة عالية، وأنا في المكتب، ولي نحو من ست سنين، وأنا قرين الصبيان الكبار، قد رزقت عقلاً وافراً في الصغر يزيد على عقل الشيوخ، فما أذكر أني لعبت في طريق مع صبي قط، ولا ضحكت ضحكاً جارحاً، حتى أني كنت ولي سبع سنين أو نحوها أحضر رحبة الجامع، ولا أتخير حلقة مشعبذ، بل أطلب المحدث، فيتحدث بالسند الطويل، فأحفظ جميع ما أسمع، وأرجع إلى البيت، فأكتبه(لفتة الكبد في نصيحة الولد).
حكمــــــة
مثل يبرز حرص الآباء على تعلم أبنائهم، رغم بعدهم عنهم وعلمهم بمشقة السفر ومخاطر الطريق وبعد المفازة، ولكنهم آثروا فقد أكبادهم في سبيل طلبهم للعلم ونفع أنفسهم ومن ثم الإسلام والمسلمين: قال علي بن عاصم الواسطي: دفع إلي أبي مائة ألف درهم، وقال لي: اذهب وسافر لطلب العلم، ولا أرى وجهك إلا ومعك مائة ألف حديث، فسافر وارتحل وطلب العلم، ثم رجع لنشره حتى كان يحضر مجلسه أكثر من ثلاثين ألفاً (تذكرة الحفاظ).
حكمــــــة
رغم هذا العلم الوافر إلا أن العلم بحر لا ساحل له " وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ " فكانوا يحتارون في المسائل. ويخشون الفتيا بدون علم، ويتدافعون الأمر، عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله! جئتك من مسيرة ستة أشهر، حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها قال: قل، فسأله الرجل عن المسألة، فقال: لا أحسنها، قال: فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء. فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن(جامع بيان العلم وفضله).
حكمــــــة
حدث الإمام الشافعي عن نفسه فقال: كنت يتيماً في حجر أمي، فدفعتني إلى الكتاب ولم يكن عندها ما تعطيه للمعلم، فكان المعلم يرضى مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع المسألة أو الحديث فأحفظها، ولم يكن عند أمي مال تعطينيه لأشتري به ورقاً وقراطيس أكتب فيها، وكنت أتتبع العظام والخزف وأكتاف الجمال وسعف النخل، فأكتب فيها الحديث، فإذا امتلأ طرحته في جرة كانت لنا في البيت، ثم إن الجرار التي في البيت قد كثرت، فقالت لي أمي: إن هذه الجرار قد ضيقت علينا البيت، فأقبلت على هذه الجرار أحفظ ما فيها ثم ألقيها، ثم بعد ذلك يسر الله لي السفر إلى اليمن(جامع بيان فضل العلم وأهله).
حكمــــــة
إن سبب تبكير سفيان لطلب العلم والاشتغال به هو تشجيع أمه له، وحضها له عليه، وتوجيهها له أن يستفيد مما يعلم ومن مجالسة العلماء، وينبغي أن يؤثر العلم في سلوكه وأدبه ومعاملته للناس وإلا فما فائدة العلم؟ فقد قالت لسفيان وهي تدفع به إلى حلقات العلم ومجالسة المشايخ: يا بني! خذ، هذه عشرة دراهم، وتعلم عشرة أحاديث، فإذا وجدتها تغير في جلستك ومشيتك وكلامـك مـع الناس فـأقبل عليه، وأنا أعينك بمغزلي هذا وإلا فاتركه، فإني أخشى أن يكون وبالاً عليك يوم القيامة(صفة الصفوة).
حكمــــــة
روى الإمام النووي رحمه الله في مناقب الإمام الشافعي رحمه الله قوله: ومن ذلك أنه تصدر في عصر الأئمة المبرزين للإفتاء والتدريس والتصنيف، وقد أمره بذلك شيخه أبو خالد مسلم بن خالد الزنجي، إمام أهل مكة ومفتيها ـ وقتذاك ـ وقال له: أفت يا أبا عبد الله؛ فقد والله آن لك أن تفتي. وكان الشافعي إذ ذاك له خمس عشرة سنة(تهذيب الأسماء واللغات للنووي).
حكمــــــة
لابد لطالب العلم أن لا يفرق بين شيخ مشهور وآخر خامل غير معروف، بل يأخذ من الجميع، قال الغزالي: فالاستنكاف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين هو عين الحماقة، فإن العلم سبب النجاة والسعادة، ومن يطلب مهرباً من سبع ضار يفترسه لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجد المؤمن ضالته فليجمعها إليه» وفي رواية أخرى عند الترمذي: «الكلمة الحكيمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها».
حكمــــــة
قال الغزالي: ومن أدبه مع أستاذه: الصمت الكثير، والاستماع الشديد، والتسليم، والصبر، وعدم تكرار شيء فهمه عنده، وعدم الإكثار من الأسئلة التي قد فهم جوابها، فقد قال الحسن بن علي رضي الله عنهما لابنه مؤدباً إياه: يا بني! إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحد حديثاً وإن طال حتى يمسك(الإحياء).
حكمــــــة
يقول ابن الجوزي متحدثاً عن الأئمة أصحاب العزائم والهمم: كانت همم القدماء من العلماء علية، تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم. إلا أن أكثر تصانيفهم دثرت، لأن همم الطلاب ضعفت، فصاروا يطلبون المختصرات، ولا ينشطون للمطولات.ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها، فدثرت الكتب ولم تنسخ. فسبيل طالب الكمال في طلب، العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة؛ فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة.وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي، ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد(صيد الخاطر).