فوائد من كتاب الهمة طريق إلى القمة لمحمد بن موسى الشريف
حكمــــــة
قال ابن القيم رحمه الله تعالى واصفاً الهمّة العالية: (علو الهمّة ألا تقف (أي النفس) دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية. فالهمّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور،لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمّة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان)
حكمــــــة
الهمّة قسمان: وهيبة، وكسبية: فالوهبيّة هي ما وهبه الله تعالى للعبد من علو الهمّة أو سفولها، ويمكن أن تنمى وتُرعى أو تهمل وتترك، فإن نماها صاحبها وعلا بها صارت كسبية، أي أن صاحب الهمّة كسب درجات عالية لهمته، وزاد من أصل مقدارها الذي وهبه الله تعالى إياه، وإن تركها وأهملها ولم يلتفت إليها خَبَتْ وتضاءلت والهمّة في هذا تشترك مع باقي الصفات العقلية والخلقية كالذكاء وقوة الذاكرة وحسن الخلق وغير ذلك مما هو معلوم بَدَهِيّ.
حكمــــــة
من أعظم المغالبات مغالبة النفس لتصبح ذا همة عالية. ومن الناس من لا يطلب إلا سفاسف الأمور ودناياها، وهم فريقان: فريق ذو همة في تحصيل تلك الدنايا، فتجده السبَّاق إلى أماكن اللهو ومغاني الغواني، وفريق لا همة له، فهو معدود من سقط المتاع، وموته وحياته سواء، لا يُفتقد إذا غاب، ولا يُسأل إذا حضر.
حكمــــــة
يقول الأستاذ المودوديّ رحمه الله تعالى مخاطباً قوماً ممن ذكرناهم آنفاً: (إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متّقدة تكون في ضرامها – على الأقل مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً ولا تدعه حتى تجرّه إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئاً يسد به رمق حياة أولاده فتقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي. إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة صادقة تشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم، وتعمر قلوبكم بالطمأنينة، وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد، وتستقطب عليها جهودكم وأفكاركم بحيث إن شؤونكم الشخصية وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين.
حكمــــــة
عليكم بالسعي ألا تنفقوا لمصالحكم وشؤونكم الشخصية إلا أقل ما يمكن من أوقاتكم وجهودكم، فتكون معظمها منصرفة لما اتخذتم لأنفسكم من الغاية في الحياة وهذه العاطفة ما لم تكن راسخة في أذهانكم، ملتحمة مع أرواحكم ودمائكم، آخذةً عليكم ألبابكم وأفكاركم، فإنكم لا تقدرون أن تحرِّكوا ساكناً بمجرد أقوالكم.
حكمــــــة
مراتب الهمم متفاوتة فيما يلي: همة لا تسعف صاحبها لقضاء حوائجه الأساسية بل يظل عامة ليله وسحابة نهاره في نوم وتراخ وكسل، وهذه أدنى درجات الهمم – والعياذ بالله – وصاحبها عاجز قاصر يعتمد على الناس اعتماداً كلياً، وهذه المرتبة قليلة في النوع الإنسانيّ، ولله الحمد. ومن أمثلتها في الناس الطفيليون، وطبقة التنابلة المشتهرين في التاريخ بكسلهم وسقوط هممهم.
حكمــــــة
من الهمم همة ترقى بصاحبها إلى قضاء الحوائج والسعي في الأرض وأداء الفروض، ولكن كل هذا يقضيه بقدر بحيث يستصعب معه كثيراً من الأمور، ويعتقد استحالتها وهي أمور ممكنة التحقق عند غيره، وتجده – عند الاستشارة- كثير الصدّ قريب القصد. وهذه المرتبة من الهمّة يشترك فيها كثير من الناس إن لم نقل أغلبهم.
حكمــــــة
من الناس من تتجاوز به همته واقع الناس بكثير وتتعداه، بل تكاد تستسهل المستحيل ولا تخضع له، وصاحب هذه الهمّة نادر في دنيا البشر، ولكنه موجود معروف، يعرفه الناس ويقتدون به. والغالب على صاحب هذه الهمّة أنه يحقق أهدافه وغايته، بل يحقق أموراً تحتاج في تصور معظم الناس إلى فريق من العاملين لإنجازها.
حكمــــــة
تحقيق كثير من الأمور مما يعده عامة الناس خيالاً لا يتحقق: وهذا الأمر مشاهد معروف عند أهل الهمم، إذ يستطيعون – بتوفيق الله لهم أولاً، وبهمتهم ثانياً – إنجاز كثير من الأعمال التي يستعظم بعضَها من قعدت به همته ويظنها خيالاً. وأعظم مثال على هذا سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، إذ المعروف عند أهل التواريخ أن بناء الأمم يحتاج إلى أجيال لتحقيقه، لكنه صلى الله عليه وسلم استطاع بناء خير أمة أُخرجت للناس في أقلَّ من ربع قرن، واستطاعت هذه الأمة أن تنير بالإسلام غالب الأجزاء المعروفة آنذاك.
حكمــــــة
الصدِّيق رضي الله عنه استطاع – في أقل من سنتين – أن يخرج من دائرة حصار المرتدين، ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت، هذا وقد نهاه كبار الصحابة عن حرب المرتدين وظنوا أنه لا يستطيع أن يقوم في وجه العرب كلهم، ولكن همته العالية أبَتْ عليه ذلك واستطاع أن ينجز ما ظنه الناس خيالاً لا ينجز.
حكمــــــة
الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد: وهذا مَعْلَم بارز في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن تبعهم بإحسان، يقول حذيفة رضي الله عنه: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها،ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مّربسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه) أخرجه الإمام مسلم.
حكمــــــة
هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه على فراش الموت يذكر أموراً تدل على همّته في العبادة والزهد، فروي عنه أنه قال: (اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، وظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلَق الذكر) حلية الأولياء.هذا وقد كان يعيش في دمشق ولكنه علا بهمته عما فيها من مغريات وجمال.
حكمــــــة
هذا الإمام مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة قد روى عنه الإمام ابن القاسم هذه الحادثة: (كنت آتي مالكاً غلساً فأسأله عن مسألتين، ثلاثة، أربعة، وكنت أجد منه انشراح الصدر، فكنت آتي كلّ سحر، فتوسدت مرة في عتبته، فغلبتني عيني فنمت، وخرج مالك إلى المسجد فلم أشعر به، فركضتني سوداء له برجلها وقالت لي: إن مولاك لا يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العَتَمَة، ظنت السوداء أنه مولاه من كثرة اختلافه إليه) (ترتيب المدارك).
حكمــــــة
البعد عن سفاسف الأمور ودناياها: صاحب الهمّة العالية لا يرضى لنفسه دنايا الأمور بل يطمح دائماً إلى ماهو أفضل وأحسن، فتجده يترفع عن مجالس اللغو وإضاعة الوقت، وينأى بنفسه عنها. يقول الإمام ابن الجوزيّ متألماً من حال من يقطع يومه وليلته في سفاسف الأمور: (قد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الزمان وتهيأوا للرحيل، فالله الله في مواسم العمر، والبدارَ البدارَ قبل الفوات،ونافسوا الزمان)قيمة الزمن عند العلماء).
حكمــــــة
صاحب الهمّة العالية يُعتمد عليه، وتناط به الأمور الصعبة وتوكل إليه: وهذا أمر مشاهد معروف، فإن كل رؤساء ومدراء الجمعيات والمؤسسات يطمحون للعمل مع صاحب الهمّة العالية ويطمئنون له ويسعدون به، كيف لا وهو عوض عن فريق من العاملين، وكذلك صاحب الهمّة العالية في الدعوة يكون بمثابة فريق من الدعاة، ويرفع الله به الدعوة درجات.
حكمــــــة
صاحب الهمّة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة، وتكون أوقاته مستثمرة بنّاءة: وهذا هو مطمع الصالحين ومراد العالمين ومجال المتنافسين، وقد كان السلف رحمهم الله يضربون أعظم الأمثلة في هذا المجال وحسبي في هذا الأمر أن أورد مثالين:أ- كان الإمام ابن عقيل الحنبليّ يقول: (إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح) (الوقت هو الحياة).
حكمــــــة
وصف الإمام النوويّ حياته لتلميذه أبي الحسن ابن العطار فذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على مشايخه شرحاً وتصحيحاً: درسين في (الوسيط)، و درساً في (المهذب)، ودرساً في صحيح مسلم، ودرساً في (اللمع) لابن جنّي، ودرساً في إصلاح المنطق، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله تعالى في وقتي)تذكرة الحفاظ.
حكمــــــة
قال أبو الحسن العطّار: (ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان لا يُضيع له وقتاً لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق. قلت: مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه، والعمل بدقائق الورع، والمراقبة، وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها).
حكمــــــة
قال د. ماردن: (كل رجل ناجح لديه نوع من الشّباك يلتقط به نحاتات وقراضات الزمان، ونعني بها فَضَلات الأيام والأجزاء الصغيرة من الساعات مما يَكنِسه معظم الناس بين مهملات الحياة، وإن الرجل الذي يدخر كل الدقائق المفردة، وأنصاف الساعات، والأعياد غير المنتظرة، والفسحات التي بين وقت وآخر، والفترات التي تنقضي في انتظار أشخاص يتأخرون عن مواعيد مضروبة لهم، ويستعمل كلَّ هذه الأوقات، ويستفيد منها ليأتي بنتائج باهرة يدهش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم الشأن)) (سبيلك إلى الشهرة والنجاح).
حكمــــــة
تغيير طريقة حياة الأفراد والشعوب: يقول الشيخ الأستاذ محمد الخضر حسين شارحاً المراد: (يسمو هذا الخلق بصاحبه فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور، فهو الذي ينهض بالضعيف يُضطهد أو يزدرى فإذا هو عزيز كريم، وهو الذي يرفع القوم من سقوط ويبدلهم بالخمول نباهة وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية. هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها...أما صغير الهمّة فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حِطَّة ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم) (رسائل الإصلاح).
حكمــــــة
3- اعتراف الشخص بقصور همته وأنه لا بد له أن يطورها ويعلو بها: وهذا أمر أوليّ نفسيّ لا مناص منه في هذا الباب، ومن ثَمّ لا بد أن يعتقد أنه قادر على أن يكون من أهل الهمّة العالية، فهذان الأمران – الاعتراف بقصور الهمّة، واعتقاد إمكانية تطويرها – عاملان مهمان لابد منهما في محاولة تطوير الهمّة، وبدونهما لا يكون الشخص قد خطا خطوات صحيحة.
حكمــــــة
يقول الإمام ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى: (أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدىء، ولا صاحب ورع فيستفيد منه المتزهد، فالله الله، وعليكم بملاحظة سير القوم، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم... ولقد نظرت في ثَبَت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثَبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحميديّ، وكتب شيخنا عبدالوهاب، وابن ناصر، وكتب أبي محمد الخشاب، وكانت أحمالاً، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه، ولو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب. فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه مَن لم يطالع فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد) قيمة الزمن عند العلماء.
حكمــــــة
6 -مراجعة جدول الأعمال اليومي، ومراعاة الأولويات، والأهم فالمهم: وهذا أمر مفيد في باب تطوير الهمّة، إذ كلما كان ذلك الجدول بعيداً عن الرتابة والملل كان أجدى في معالجة الهمّة، ومثال ذلك شخص اعتاد أن يزور أقاربه أو صحبه كل يوم، ويقضي الساعات الطوال معهم بغير فائدة تذكر، فمراجعة مثل هذا الشخص لجدول عمله تفيده أيما فائدة بحيث يقلل من تلك الزيارات لصالح أعمال أخرى تعود على همته بالفائدة.
حكمــــــة
7 - التنافس والتنازع بين الشخص وهمته: أعني بهذا أن على مريد تطوير همته أن يضيف أعباءً وأعمالاً يومية لنفسه لم تكن موجودة في برنامج حياته السابق، بحيث يحدث نوع من التحدي داخل الإنسان لإنجاز ما تحمله من أعباء جديدة، ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط واليأس ويجب عليه كذلك أن يحسن اختيار هذه الأعمال والأعباء الجديدة بحيث تكون مبلغة له إلى الكمال، (فمن كانت همته حفظ جميع كتب محمد بن الحسن فالظاهر أنه يحفظ أكثرها أو نصفها) تعليم المتعلم. فالتحدي الذي نشأ في نفسه بسبب رغيته في حفظ كتب معينة سيوصله إلى حفظ أكثرها، والله أعلم.
حكمــــــة
8 - الدأب في تحصيل الكمالات والتشوق إلى المعرفة: فمن استوى عنده العلم والجهل، أو كان قانعاً بحاله وما هو عليه فكيف تكون له همة أصلاً، قال ابن حجر رحمه الله يصف حال الإمام جلال الدين البُلْقِينيّ: (ما رأيت أحداً ممن لقيته أحرص على تحصيل الفائدة منه، بحيث إنه كان إذا طرق سمعَه شيء لم يكن يعرفه لا يقر ولا يهدأ ولا ينام حتى يقف عليه ويحفظه، وهو على هذا مكب على الاشتغال، محب في العلم حق المحبة) الضوء اللامع للأهل القرن التاسع.
حكمــــــة
9 - الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمّة وتضييعها: كثير من الصالحين تضيع طاقاتُهم في أمور لا تعود عليهم بالنفع بل قد يكون فيها كثير من الضرر، فمن صور هذا التضييع: أ-كثرة الزيارة للأقارب بدون هدف شرعيّ صحيح، ولا غرض دنيويّ فيه منفعة وفائدة معتبرة. ب- كثرة الزيارة للأصحاب والإخوان بدعوى الأخوة والتناصح، فيكثر في المجلس اللغو والمزاح و تقل الفائدة.
حكمــــــة
يقول الإمام ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى: (أعوذ بالله من صحبة البطّالين، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما اعتاد الناس من كثرة الزيارة ويسمون ذلك التردد: خدمة، ويطيلون الجلوس، ويُجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني ويتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه واستوحش الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان.فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء والواجب انتهابُه بفعل الخير كرهتُ ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غُلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق) (قيمة الزمن عند العلماء):
حكمــــــة
ذكر ابن حجر رحمه الله أن تاج الدين المراكشيّ- أحد فقهاء الشافعية - كان قد (انقطع بالمدرسة الأشرفية ملازماً للقراءة والاشتغال صبوراً على ذلك جداً، بحيث يمتنع عن الآكل والشرب والملاذ بسبب ذلك)) (الدرر الكامنة). وهذه الأمور من المباحات قطعاً، ولكن ذلك الفقيه علم أن الإكثار منها والولع فيها سبب لسقوط الهمّة وضعف العمل.
حكمــــــة
ذكر السبكيّ أن أباه الإمام تقيّ الدين (كان من الاشتغال على جانب عظيم بحيث يستغرق غالب ليله وجميع نهاره... كان يخرج من البيت صلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجد أهل البيت قد عملوا له فرّوجاً فيأكله ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب فيأكل شيئاً حُلواً لطيفاً، ثم يشتغل بالليل، وهكذا لا يعرف غير ذلك، حتى ذكر لي أن والده قال لأمه: هذا الشاب ما يطلب قط درهماً ولا شيئاً فلعله يرى شيئاً يريد أن يأكله فضعي في منديله درهماً أو درهمين، فوضعت نصف درهم، قالت الجدة: فاستمر نحو جمعتين وهو يعود والمنديل معه والنصف فيه إلى أن رمى به إليّ وقال: أيش أعمل بهذا؟ خذوه عني) (طبقات الشافعية).
حكمــــــة
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (قال لي يوماً شيخ الإسلام قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة، فالعارف يترك كثيراً من المباح برزخاً بين الحلال والحرام) (مدارج السالكين). هذا والذي لام عليه الإمام ابن تيمية تلميذه (شيء من المباح)، فما بالكم بما نراه اليوم من تمتع الدعاة بمباحات ونعيم لا يعرفه الملوك السالفون.
حكمــــــة
و - الاستجابة للصوارف الأسرية استجابة كلية أو شبه كلية: فنجد الشخص منهمكاً في تلبية مطالب زوجه وعياله وقد لا تكون مهمة في أحيان كثيرة، وقد يعترض معترض ويورد أحاديث لا تدل على ما ذهب إليه مثل (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) أخرجه ابن ماجه في والترمذيّ وابن حبان، ومثل(كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، وغير ذلك، وإنما هذه الأحاديث في الحث على إحسان الخُلق مع الأهل وعدم تركهم وتضييعهم بالكلية كما لا يخفى، وقد دخلت علينا في حياتنا الأسرية كثير من التقاليد الغربية في أمر الاحتفاء الزائد بالأهل والأولاد، ودعوى ضرورة بناء مستقبلهم، وغير ذلك مما حاصله نسيان الكفالة الإلهية والضمان الربانيّ.
حكمــــــة
ح - الكسل والفتور: (لابد للمرء من البعد عن الكسل لأنه قاتل للهمّة مُذهب لها، وخاصة عند تقدم العمر وعجز الجسم، فهذا شيخ الإسلام زكريا الأنصاريّ رحمه الله تعالى (كان يصلي النوافل من قيام مع كبر سنه وبلوغه مائة سنة أو أكثر، وهو يميل يميناً وشمالاً لا يتمالك أن يقف بغير ميل للكبر والمرض، فقيل له في ذلك فقال: يا ولدي، النفس من شأنها الكسل وأخاف أن تغلبني وأختم عمري بذلك).
حكمــــــة
(والإسراع في القيام بعمل من الأعمال يُزيل ما فيه من العناء، أما التأجيل فمعناه الإهمال، والعزم على العمل يصير مع الوقت عزماً على عدم العمل، وما أشبه من يعمل عملاً بمن يُلقي بذاراً في الأرض فإذا هو لم يعمله في حينه فإنه يبقى إلى الأبد بدون ثمرة، وليس صيف الزمان من الطول بحيث إن الأعمال المؤجلة تنضج ثمارها فيه) (سبيلك إلى الشهرة والنجاح).
حكمــــــة
(وإن للتأخر عواقب مشؤومة، فتأخر يوليوس قيصر عن قراءة رسالة وردت إليه كلفته خسارة حياته حين بلوغه مجلس الأعيان الرومانيّ، والكولونيل راهل قائد موقع ترانتون لما جاءه رسول يحمل إليه كتاباً متضمنناً نبأ اجتياز واشنطن لنهر ديلاور كان يلعب بالورق فوضع الكتاب في جيبه ولم يفضّه إلا بعد انتهاء اللعبة، وللحال سار في مقدمة جنوده إلى ميدان القتال فقتل ثم أخذ رجاله أسرى، فتأخّر بضع دقائق جَرَّ عليه خسارة الشرف والحرية الحياة) (سبيلك إلى الشهرة والنجاح).
حكمــــــة
قال الأستاذ محمد الخضر حسين: (طالب العلم الذي لا يدع باباً من أبوبه إلا ولجه... يكون أعظم همة ممن لا يطرق منه كل باب، أو لم يعرج منه على كل مسألة قيمة، وطالب العلم الذي يخوضه بنظر حر ويتناول مباحثه بنقد وبصيرة يكون أعظم همة ممن يجمع مسائله حفظاً ويتلقاها كما يتلقى حاكي الصدى لا يكلفك غير إملائها عليه).
حكمــــــة
كيفية استثمار همة الناس: إذا عرفنا ذلك كله فيجب علينا أن نحسن استثمار الهمّة عند الناس، ونستخرج منهم دفائن الكنوز وخبايا الصدور والعقول. والناس أمام المسلم الصالح ثلاثة أقسام: صالح ملتزم بدينه، ومستقيم محافظ على الفرائض والواجبات، وثالث مضيع ضائع. أما القسم الثالث فيترك لحين إفاقته. وأما القسم الثاني، وهم المستقيمون المحافظون ولكن في استقامتهم ومحافظتهم تخليط فتستثمر هممهم كما يأتي، والله أعلم.
حكمــــــة
1- إن كانوا من ذوي اليسار والغنى يوجهون للمشاركة في أعمال الخير العامة مثل بناء المساجد، وإغاثة المنكوبين، وإقامة المنشآت النافعة ونحو ذلك، وخير ما يمكن أن يشاركوا فيه هو تلك الهيئات والجمعيات الإسلامية المنتشرة في العالم الإسلاميّ، ولله الحمد، حيث إن الكوارث والنكبات التي تحيط بالعالم الإسلاميّ والتي توضحها وتتبناها تلك الهيئات كفيلة بإثارة نوازع الشفقة والخير فيهم، فينشطون للمساعدة بهمة جيدة.
حكمــــــة
القسم الأول " صالح ملتزم بدينه " فهو المعتمد عليه والمأمول منه الإصلاح والرقي بهذه الأمة، ويمكن استثمار همم هذا الصنف كما يأتي، والله أعلم. 1- الانتساب إلى جمعية أو هيئة لها برنامج عمل محدد يُنجز من خلالها كثير من الأمور النافعة، وذلك مثل بعض الهيئات الإغاثية المنتشرة في العالم الإسلاميّ، أو جمعيات البر، أو لجان البر، أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك. وليحذر الأخ من التأثر بما تشتمل عليه بعض هذه الهيئات من نوع خطأ أو ميل قليل عن الحق فيترك العمل كلية لأجل هذا.
حكمــــــة
3 - توعية الشخص المنصوح بأن يختار لنفسه مجالاً يبدع فيه ويبرز ويكون عطاؤه من خلاله بالغاً غايته، وهمته في إنجازه قوية عالية، فمن وجد من نفسه انصرافاً للعلم وتحصيله فليقبل عليه، ومن وجد منها ميلاً إلى الأعمال الخيرية والإغاثية فليشارك إخوانه، ومن وجد منها حباً للجهاد ومقارعة الأعداء فلا يتوان وليقدم على بركة الله تعالى، وهكذا.
حكمــــــة
تزاحم الأعمال على الإنسان ومحاولة القيام بها مجتمعةً أمر لا ينكره أهل الهمّة العالية، ومثال ذلك رجل مسافر في قطار مع أهله للترويح والمتعة فهو في أثناء تجواله يتمتع بجمال الطبيعة، كما أن عليه أن يهتم بأطفاله وينبههم ويوجههم، ولعله بيده كتاب يقرأه أو أمر ينجزه، وهو – أيضاً – يتكلم مع زوجه ويلاطفها، وتدور في مخيلته عدة أفكار وتحدث له كل هذه الأمور في وقت واحد وقد ينجزها على وجه القبول، وكذلك أهل الهمّة تتزاحم عليهم الأعمال الكثيرة فينجزونها كلها أو معظمها.
حكمــــــة
محاذير موجهة لأهل الهمّة العالية: 2 - صاحب الهمّة العالية معرض لنصائح تثنيه عن همته وتحاول أن تذكره دائماً بأنه (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)، وأن صاحب الصنعتين كاذب والثالثة سارق، وهكذا، فالحصيف لا يلتفت لهذه النصائح إلا بقدر محدود، وذلك لأن موجهي هذه النصائح قد تنشأ نصائحهم هذه لحسد اعتراهم من حال المنصوح، أو لأنهم يجهلون ما يستطيع عمله هذا الرجل ذو الهمّة العالية من أمور لا تدركها أفهامهم ولا تستطيعها هممهم.
حكمــــــة
6 - قد تؤدي الهمّة العالية بصاحبها إلى أن يتحمس تحمساً اندفاعياً فيستعجل ويرتكب من الأخطاء ما كان يمكن تلافيه بقليل من التعقل وحساب العواقب، وعلى من وقع في مثل هذا أن يعرف السنن الكونية وأن الأمر لا يحسم بين عشية وضحاها، وليكن مثلُه سيدَ أولي الهمّة العالية صلى الله عليه وسلم فقد كان يوصي أصحابه رضي الله عنهم بالعمل والصبر، فالصبر لا غنى عنه لأهل الهمم.
حكمــــــة
7- أهل الهمّة العالية قد يتعرضون لأمور تؤثر في هممهم وتطلعهم إلى معالي الأمور، وأعظم مثال على هذا التعرض للخلاف الحاصل بين الفقهاء بعين الذمّ والمقت، ونقدهم والإقلال من شأنهم، ومثاله أيضاً التعرض للجماعات الإسلامية العاملة على الساحة وذمها والتنقص من شأنها وإلصاق التهم بها بدون وجه شرعيّ معتبر في أحيان كثيرة، ويمضي هذا الأخ سحابة يومه وليلته باحثاً عن الأخطاء متصيداً لها، ومثل هذا الشخص إن أصبح هذا الأمر ديدنه فستتخلف همته ولا شك وتقعد به عن معالي الأمور.
حكمــــــة
يقول الأستاذ محمد الخضر حسين: (كبير الهمّة يستبين خطأ في رأي عالم أو عبارة كاتب فيكتفي بعرض ما استبان من خطأ على طلاب العلم ليفقهوه، ويأبى له أدبه أن ينزل إلى سقط الكلام أو يَخفَّ إلى التبجح بما عنده، وقد حدثنا التاريخ عن رجال كانوا أذكياء ولكنهم ابتلوا بشيء من هذا الخُلق المكروه، فكان عوجاً في سِيَرهم ولطخاً في صحفهم، ولو تحاموه لكان ذكرهم أعلى ومقامهم في النفوس أسمى، ومنزلتهم عند الله أرقى).
حكمــــــة
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (أعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنة، والفهم عن الله ورسوله نفس المراد، وعلم حدود المنزل، وأخس همم طالب العلم قصر همته على تتبع شواذ المسائل وما لم ينزل، ولا هو واقع، أو كانت همته معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس، وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال، وقَلّ أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه).
حكمــــــة
الإمام أبو القاسم بن عساكر فقد قال عنه أبو المواهب بن صَصْرَي: (لم أرَ مثله، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وأباها بعد أن عرضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم).
حكمــــــة
هذا الشيخ كمال العباسيّ الكجراتيّ الهندي، كان (من عوائده أنه كان يستيقظ في الليل إذا بقي ثلثه فيغتسل ويتهجد، ويقرأ سبعة أجزاء من القران في الصلاة، ثم يدعو بالأدعية المأثورة، ثم يذكر الله سبحانه وتعالى، ثم يصلي الفجر، ثم يشتغل بتلاوة القرآن إلى صلاة الإشراق، ثم يصلي ويجلس للدرس والإفادة فيدرس إلى زوال الشمس، ثم يتغدى ومعه جماعة من المحصلين عليه، ثم يقيل ساعة، ثم يصلي الظهر، ثم يجلس للإفتاء فيشتغل به إلى العصر، ثم يصلي، ثم يشتغل به، ثم يصلي ويقبل على أصحابه، فيتحدث معهم إلى العشاء، ثم يدخل في حجرته ويشتغل بمطالعة كتبه التي يدرسها إلى الثلث الأول من الليل، ثم يدخل في المنزل وكان من الخامسة عشرة من سنه إلى أربع وخمسين صرف عمره على هذا الطريق).