6. فوائد من كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي
قال بعض الادباء: من أشار عليك باصطناع جاهل أو عاجز، لم يخل أن يكون صديقا جاهلا أو عدوا عاقلا؛ لأنه يشير بما يضرك ويحتال فيما يضع منك.
قال بعض الحكماء: اصطف من الاخوان ذا الدين والحسب والرأي والادب، فإنه ردء لك عند حاجتك، ويد عند نائبتك، وأنس عند وحشتك، وزين عند عافيتك.
قال بعض الحكماء: عداوة العاقل أقل ضررا من مودة الاحمق؛ لأن الاحمق ربما ضر وهو يقدر أن ينفع، والعاقل لا يتجاوز الحد في مضرته، فمضرته لها حد يقف عليه العقل، ومضرة الجاهل ليست بذات حد. والمحدود أقل ضررا مما هو غير محدود.
قال بعض الحكماء: مخالطة الاشرار على خطر، والصبر على صحبتهم كركوب البحر، الذي من سلم منه ببدنه من التلف فيه، لم يسلم بقلبه من الحذر منه.
قال المأمون: الاخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحيانا، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبدا.
قيل في منثور الحكم: لا تغترن بمقاربة العدو فإنه كالماء وإن أطيل إسخانه بالنار لم يمنع من إطفائها.
قال الاسكندر: المستكثر من الاخوان من غير اختيار كالمستوفر من الحجارة، والمقل من الاخوان المتخير لهم كالذي يتخير الجوهر.
قال بعض البلغاء: ليكن غرضك في اتخاذ الاخوان واصطناع النصحاء تكثير العدة لا تكثير العدة، وتحصيل النفع لا تحصيل الجمع، فواحد يحصل به المراد خير من ألف تكثر الاعداد. وإذا كان التجانس والتشاكل من قواعد الاخوة وأسباب المودة، كان وفور العقل وظهور الفضل يقتضي من حال صاحبه قلة إخوانه؛ لأنه يروم مثله، ويطلب شكله وأمثاله من ذوي العقل والفضل أقل من أضداده من ذوي الحمق والنقص؛ لأن الخيار في كل شيء هو الاقل، فلذلك قل وفور العقل والفضل. وقد قال الله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}. فقل بهذا التعليل إخوان أهل الفضل لقلتهم، وكثر إخوان ذوي النقص والجهل؛ لكثرتهم.
قال الكندي: كيف تريد من صديقك خلقا واحدا وهو ذو طبائع أربع ؟ مع أن نفس الانسان التي هي أخص النفوس به ومدبرة باختياره وإرادته، لا تعطيه قيادها في كل ما يريد، ولا تجيبه إلى طاعته في كل ما يحب، فكيف بنفس غيره، وحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره .
قال بعض البلغاء: لا يزهدنك في رجل حمدت سيرته، وارتضيت وتيرته، وعرفت فضله، وبطنت عقله عيب تحيط به كثرة فضائله، أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله. فإنك لن تجد، ما بقيت، مهذبا لا يكون فيه عيب، ولا يقع منه ذنب. فاعتبر نفسك، بعد، أن لا تراها بعين الرضى، ولا تجري فيها على حكم الهوى، فإن في اعتبارك واختيارك لها ما يؤيسك مما تطلب، ويعطفك على من يذنب.
قال جعفر بن محمد لابنه: يا بني من غضب من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك سوءا فاتخذه لنفسك خلا.
قال بعض الحكماء: من جاد لك بمودته، فقد جعلك عديل نفسه. فأول حقوقه اعتقاد مودته ثم إيناسه بالانبساط إليه في غير محرم، ثم نصحه في السر والعلانية، ثم تخفيف الاثقال عنه، ثم معاونته فيما ينوبه من حادثة، أو يناله من نكبة. فإن مراقبته في الظاهر نفاق، وتركه في الشدة لؤم.
كان علي بن أبي طالب رضى الله عنه يقول: اللهم إني أعوذ بك ممن لا يلتمس خالص مودتي الا بموافقة شهوتي , وممن ساعدني على سرور ساعتي، ولا يفكر في حوادث غدي.
قالوا: من حاول صديقا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به، كان كضال الطريق الذي لا يزداد لنفسه إتعابا الا ازداد من غايته بعدا.
وصى بعض الادباء أخا له فقال: كن للود حافظا وإن لم تجد محافظا، وللخل واصلا وإن لم تجد مواصلا.
قال بعض الادباء : العجب ممن يطرح عاقلا كافيا لما يضمره من عداوته، ويصطنع عاجزا جاهلا لما يظهره من محبته، وهو قادر على استصلاح من يعاديه بحسن صنائعه وأياديه.
إن البر من أسباب الالفة لأنه يوصل إلى القلوب ألطافا، ويثنيها محبة وانعطافا ولذلك ندب الله تعالى إلى التعاون به وقرنه بالتقوى له فقال: {وتعاونوا على البر والتقوى} لأن في التقوى رضى الله تعالى، وفي البر رضى الناس ومن جمع بين رضى الله تعالى ورضى الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته.
قال بعض الحكماء: الشره من غرائز اللؤم. وأما سوء الظن فهو عدم الثقة بمن هو لها أهل، فإن كان بالخالق كان شكا يئول إلى ضلال، وإن كان بالمخلوق كان استخانة يصير بها مختانا وخوانا، لأن ظن الانسان بغيره بحسب ما يراه من نفسه، فإن وجد فيها خيرا ظنه في غيره، وإن رأى فيها سوءا اعتقده في الناس.
اعلم أن السرف والتبذير قد يفترق معناهما. فالسرف: هو الجهل بمقادير الحقوق، والتبذير: هو الجهل بمواقع الحقوق. وكلاهما مذموم، وذم التبذير أعظم؛ لأن المسرف يخطئ في الزيادة، والمبذر يخطئ في الجهل. ومن جهل مواقع الحقوق ومقاديرها بماله وأخطأها، فهو كمن جهلها بفعاله فتعداها وكما أنه بتبذيره قد يضع الشيء في غير موضعه، فهكذا قد يعدل به عن موضعه؛ لأن المال أقل من أن يوضع في كل موضع من حق وغير حق.
قال أيوب السختياني: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عن أموال الناس، والتجاوز عنهم.
كتب كسرى إلى ابنه هرمز: يا بني استقل الكثير مما تعطي، واستكثر القليل مما تأخذ، فإن قرة عيون الكرام في الاعطاء وسرور اللئام في الاخذ، ولا تعد الشحيح أمينا ولا الكذاب حرا فإنه لا عفة مع الشح ولا مروءة مع الكذب.
قيل لبعض الزهاد: لو سألت جارك أعطاك ؟ فقال: والله ما أسأل الدنيا ممن يملكها فكيف ممن لا يملكها.
وعد يحيى بن خالد رجلا بحاجة سأله إياها فقيل له: تعد وأنت قادر ؟ فقال: إن الحاجة إذا لم يتقدمها وعد ينتظر صاحبه نجحه لم يجد سرورها؛ لأن الوعد طعم والانجاز طعام، وليس من فاجأه الطعام كمن يجد ريحه ويطعمه فدع الحاجة تختمر بالوعد؛ ليكون لها طعم عند المصطنع إليه.
قال بعض البلغاء: إذا أحسنت القول فأحسن الفعل؛ ليجتمع لك ثمرة اللسان وثمرة الاحسان، ولا تقل ما لا تفعل فإنك لا تخلو في ذلك من ذنب تكسبه، أو عجز تلتزمه.