4. فوائد من كتاب روضة العقلاء
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: الواجب على العاقل: أن يستعمل الأشياء على ما يوجب الوقت، ويرضى بنفاذ القضاء، ولا يتمنى ضد ما رزق، وإن كان عنده الشيء التافه، لا يجب أن يمتنع من بذله لاستحقاره واستقلاله؛ لأن أهون ما فيه لزوم البخل والمنع، ومن حقر شيئا منعه، بل يكون عنده الكثرة والقلة في الحالة سيان، لأن ما يورث الكثير من الخصال، أورث الصغير بقدره من الفعال.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: الواجب على المسلمين كافة: نصيحة المسلمين، والقيام بالكشف عن همومهم وكربهم؛ لأن من نفس كربة من كرب الدنيا عن مسلم نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن تحرى قضاء حاجته ولم يقض قضاؤها على يديه، فكأنه لم يقصر في قضائها، وأيسر ما يكون في قضاء الحوائج استحقاق الثناء، والإخوان يعرفون عند الحوائج، كما أن الأهل يختبرون عند الفقر؛ لأن كل الناس في الرخاء أصدقاء، وشر الإخوان الخاذل لأخيه عند الشديدة والحاجة، كما أن شر البلاد بلدة ليس فيها خصب ولا أمن.
حكمــــــة
لما حضر سعيد بن العاص رضى الله عنه الوفاة، قال لبنيه: يا بني، أيكم يقبل وصيتي؟ فقال ابنه الأكبر: أنا. قال: إن فيها قضاء ديني، قال: وما دينك يا أبت؟ قال: ثمانون ألف دينار، قال: يا أبت فيم أخذتها؟ قال: يا بني، في كريم سددت به خلته، ورجل جاءني في حاجة وقد رأيت السوء في وجهه من الحياء، فبدأت بحاجته قبل أن يسألها.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: حقيق على من علم الثواب، أن لا يمنع ما ملك من جاه أو مال إن وجد السبيل إليه قبل حلول المنية، فيبقى عن الخيرات كلها، ويتأسف على ما فاته من المعروف. والعاقل يعلم أن من صحب النعمة في دار الزوال لم يخل من فقدها، وأن من تمام الصنائع وأهناها إذا كان ابتداء من غير سؤال.
حكمــــــة
جاء رجل إلى يحيى بن طلحة بن عبد الله، فقال له: هب لي شيئا، قال: يا غلام أعطه ما معك، فأعطاه عشرين ألفا، قال: فأخذها ليحملها فثقلت عليه، فقعد يبكي، فقال: ما يبكيك؟ لعلك استقللتها فأزيدك، قال: لا، والله ما استقللتها، ولكن بكيت على ما تأكل الأرض من كرمك، فقال له يحيى: هذا الذي قلته لنا أكثر مما أعطيناك.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: لا يجب للعاقل أن يتوسل في قضاء الحوائج بالعدو، ولا بالأحمق، ولا بالفاسق، ولا بالكذاب، ولا بمن له عند المسؤول طعمة، ولا يجب أن يجعل حاجتين في حاجة، ولا أن يجمع بين سؤال وتقاض، ولا يظهر شدة الحرص في اقتضاء حاجته، فإن الكريم يكفيه العلم بالحاجة دون المطالبة والاقتضاء.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: العاقل لا يتسخط ما أعطي، وإن كان تافها؛ لأن من لم يكن له شيء، فكل شيء يستفيده ربح، ولا يجب أن يسأل الحاجة كل إنسان، فرب مهروب منه أنفع من مستغاث إليه، ولا يجب أن يكون السائل متشفعا لآخر؛ لأن من لم يقدر على أن يسبح فلا يجب أن يحمل على عنقه آخر. ومن سئل فليبذل؛ لأن مال المرء نصفان: له ما قدم، ولوارثه ما خلف. وأقرب الأشياء في الدنيا زوالا: المال، والولاية. والتعاهد للصنيعة بالتحفظ عليها أحسن من ابتدائها، ومن غرس غراسا فلا يضنن بالنفقة على تربيته، فتذهب النفقة الأولى ضياعا.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: إني لأستحب للمرء طلب المعالي من الأخلاق، مع ترك رد السؤال؛ لأن عدم المال خير من عدم محاسن الأخلاق، والندامة موكلة بترك معالجة الفرصة، وإن الحر - حق الحر - من أعتقته الأخلاق الجميلة، كما أن أسوأ العبيد من استعبدته الأخلاق الدنية. ومن أفضل الزاد في المعاد اعتقاد المحامد الباقية، ومن لزم معالي الأخلاق أنتج له سلوكها فراخا تطير بالسرور.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله -: ما ضاع مال ورث صاحبه مجدا، ولولا المتفضلون مات المتجملون، وليس يستحق المرء اسم الكرم بالكف عن الأذى، إلا أن يقرنه بالإحسان إليهم، فمن كثر في الخير رغبته، وكان اصطناع المعروف همته، قصده الراجون، وتأمله المتأملون، ومن كان عيشه وحده لم يعش بعيشه غيره، فهو - وإن طال عمره - قليل العمر.واليائس من طال عمره في غير الخير، ومن لم يتأس بغيره في الخير كان عاجزا، كما أن من استحسن من نفسه ما يستقبحه من غيره كان كالغاش لمن تجب عليه نصيحته، ومن لم يكن له هم إلا بطنه وفرجه عد من البهائم. والهمة تبلغ الرتبة العالية؛ لأن الناس بهمتهم.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: العاقل يبتدىء بالصنائع قبل أن يسأل؛ لأن الابتداء بالصنيعة أحسن من المكافأة عليها، والإمساك عن التعرض خير من البذل، والصنائع إنما تحسن بإتمامها، والتحافظ عليها بعدها؛ لأن بصلاح الخواتم تزكو الأوائل، والعطية بعد المنع أجمل من المنع بعد العطية، والناس في الصنائع على ضربين: شاكر، وكافر.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: إني لأستحب للعاقل المداومة على إطعام الطعام، والمواظبة على إقراء الضيف؛ لأن إطعام الطعام من أشرف أركان الندى، ومن أعظم مراتب ذوي الحجى، ومن أحسن خصال أولي النهى. ومن عرف بإطعام الطعام شرف عند الشاهد والغائب، وقصده الراضي والعاتب. وقرى الضيف يرفع المرء وإن رق نسبه إلى منتهى بغيته، ونهاية محبته، ويشرفه برفيع الذكر، وكمال الذخر.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: كل من ساد في الجاهلية والإسلام حتى عرف بالسؤدد، وانقاد إليه قومه، ورحل إليه القريب والقاصي، لم يكن كمال سؤدده إلا بإطعام الطعام، وإكرام الضيف. والعرب لم تكن تعد الجود إلا قرى الضيف، وإطعام الطعام، ولا تعد السخي من لم يكن فيه ذلك، حتى إن أحدهم ربما سار في طلب الضيف الميل والميلين.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله -: يجب على العاقل ابتغاء الأضياف، وبذل الكيس ؛ لأن نعمة الله إذا لم تصن بالقيام في حقوقها، ترجع من حيث بدأت، ثم لا ينفع من زالت عنه التلهف عليها، ولا الإفكار في الظفر بها. وإذا أدى حق الله فيها استجلب النماء والزيادة، واستذخر الأجر في القيامة، واستنقص إطعام الطعام. وعنصر قراء الضيف: هو ترك استحقار القليل، وتقديم ما حضر للأضياف؛ لأن من حقر منع، مع إكرام الضيف بما يقدر عليه، وترك الادخار عنه.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله -: أبخل البخلاء من بخل بإطعام الطعام، كما أن من أجود الجود بذله، ومن ضن بما لا بد للجثة منه، ولا تربو النفس إلا عليه: كان لغيره أبخل، وعليه أشح. ومن إكرام الضيف: طيب الكلام، وطلاقة الوجه، والخدمة بالنفس؛ فإنه لا يذل من خدم أضيافه، كما لا يعز من استخدمه، أو طلب لقراته أجرا.
حكمــــــة
مر سعيد بن العاص بدار رجل بالمدينة، فاستسقى فسقوه، ثم مر بعد ذلك بالدار ومناد ينادي عليها فيمن يزيد، فقال لمولاه: سل، لم تباع هذه؟ فرجع إليه فقال: على صاحبها دين. قال: فارجع إلى الدار، فرجع، فوجد صاحبها جالسا وغريمه معه، فقال: لم تباع دارك؟ قال: لهذا علي أربعة آلاف دينار، فنزل وتحدث معهما، وبعث غلامه، فأتاه ببدرة فدفع إلى الغريم أربعة آلاف، ودفع الباقي إلى صاحب الدار، وركب ومضى.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: إني لأستحب للمرء أن يلزم الشكر على الصنائع والسعي فيها من غير قضائها، إذا كان المنعم من ذوي القدر فيه، والاهتمام بالصنائع، لأن الاهتمام ربما فاق المعروف، وزاد على فعل الإحسان؛ إذ المعروف قد يعمله المرء لنفسه، والإحسان يصطنعه إلى الناس، وهو غير مهتم به، ولا مشفق عليه، وربما أفعله الإنسان وهو متكاره. والاهتمام لا يكون إلا من فرط عناية، وفضل ود، فالعاقل يشكر الاهتمام أكثر من شكره للمعروف.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله-: صرحت السنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن كل راع مسؤول عن رعيته، فالواجب على كل من كان راعيا لزوم التعاهد لرعيته، فرعاة الناس العلماء، وراعي الملوك العقل، وراعي الصالحين تقواهم، وراعي المتعلم معلمه، وراعي الولد والده؛ كما أن حارس المرأة زوجها، وحارس العبد مولاه، وكل راع من الناس مسؤول عن رعيته. وأكثر ما يجب تعاهد الرعية للملوك؛ إذ هم رعاة لها، وهم أرفع الرعاة، لكثرة نفاذ أمورهم، وعقد الأشياء وحلها من ناحيتهم، فإذا لم يراعوا أوقاتهم، ولم يحتاطوا لرعيتهم هلكوا وأهلكوا.
حكمــــــة
ربما كان هلاك عالم، في فساد ملك واحد، ولا يدوم ملك ملك إلا بأعوان تطيعه، ولا يطيعه الأعوان إلا بوزير، ولا يتم ذلك إلا أن يكون الوزير ودودا نصوحا، ولا يوجد ذلك من الوزير إلا بالعفاف والرأي، ولا يتم قوام هؤلاء إلا بالمال، ولا يوجد المال إلا بصلاح الرعية، ولا تصلح الرعية إلا بلزوم العدل، فكأن ثبات الملك لا يكون إلا بلزوم العدل، وأن زواله لا يكون إلا بمفارقته.
حكمــــــة
قال ملك هجارستان لنصر بن سيار: ينبغي للأمير أن يكون له ستة أشياء: وزير يثق به ويفضي إليه بسره، وحصان يلجأ إليه إذا فزع أنجاه - يعني: فرسا -، وسيف إذا نازل به الأقران لم يخف أن يخونه، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة أخذها، وامرأة إذا دخل إليها أذهبت همه، وطباخ إذا لم يشته الطعام صنع له شيئا يشتهيه.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: لا يجب للسلطان أن يفرط البشاشة والهشاشة للناس، ولا أن يقل منهما؛ فإن الإكثار منهما يؤدي إلى الخفة والسخف، والإقلال منهما يؤدي إلى العجب والكبر، ولا ينبغي له أن يغضب ؛ لأن قدرته من وراء حاجته، ولا له أن يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه، ولا له أن يبخل؛ لأنه لا عذر له في منع الأموال والجاه معا، ولا له أن يحقد؛ لأنه يجب أن يترفع عن المجازاة، وأفضل السلطان ما لم يخالطه البطر، وأعجزهم آخذهم بالهوينا وأقلهم نظرا في العواقب، وخير السلطان من أشبه النسر حوله الجيف، لا من أشبه الجيف حولها النسور.
حكمــــــة
خرج الزهري يوما من عند هشام بن عبد الملك فقال: ما رأيت كاليوم، ولا سمعت به، كأربع كلمات تكلم بهن رجل آنفا عند هشام بن عبد الملك، فقيل له: وما هن؟ قال: قال له رجل: يا أمير المؤمنين، احفظ عني أربع كلمات، فيها صلاح ملكك، واستقامة رعيتك. قال: هاتهن، قال: لا تعدن عدة من لا تثق من نفسه بإنجازها، ولا يغرنك المرتقى، وإن كان سهلا، إذا كان المنحدر وعرا، واعلم أن للأعمال جزاء، فاتق العواقب، فإن للأمور بغتات؛ فكن على حذر.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى-: من صحب السلطان فلا يجب أن يكتمه نصيحته؛ لأن من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بثه ؛ فقد خان نفسه، ومن يصحب السلطان فلا يخلو من الآثام، كما أن راكب العجل لا يأمن العثار، ولا يجب أن يأمن غضب السلطان إن صدقه، ولا عقوبته إن كذبه، ولا يجترىء عليه إن أدناه؛ لأن الحازم العاقل لا يشرب السم اتكالا على ما عنده من الترياق والأدوية.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله -: رؤساء القوم أعظمهم هموما، وأدومهم غموما، وأشغلهم قلوبا، وأشهرهم عيوبا، وأكثرهم عدوا، وأشدهم أحزانا، وأنكاهم أشجانا، وأكثرهم في القيامة حسابا، وأشدهم - إن لم يعف الله عنهم - عذابا. ومن أحسن ما يستعين به السلطان على أسبابه، اتخاذ وزير عفيف ناصح على ما تقدم ذكرنا له، فإن الوزير إذا غفل الأمير ذكره، وإذا ذكره أعانه، فإن سولت له نفسه سيئة صده، وإن أراد طاعة نشطه، فهو المحبب له إلى الناس، والمستجلب له دعاءهم.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: الواجب على كل من يغشى السلطان، وامتحن بصحبته، أن لا يعد شتمه شتما، ولا إغلاظه إغلاظا، ولا التقصير في حقه ذنبا؛ لأن ريح العزة بسطت لسانه ويده بالغلظة، فإن أنزله الوالي منزلة رفيعة من نفسه، فلا يثقن بها، وليجانب معه كلام الملق، والإكثار من الدعاء في كل وقت، وكثرة الانبساط، فرب كلمة أثارت الوحشة؛ بل يجتهد في توقيره وتعظيمه عند الناس، فإن غضب فليحتل في تسكين غضبه باللين والمداراة، ولا يكون سببا لتهييجه.
حكمــــــة
بعث أبو جعفر إلى جعفر بن محمد فقال: إني أستشيرك في أمر، إني قد تأنيت أهل المدينة مرة بعد أخرى، فلا أراهم يرجعون ولا يعتبون. وقد رأيت أن أبعث فأحرق نخلها، وأغور عيونها، فما ترى؟ فسكت جعفر. فقال: ما لك لا تكلم؟ قال: إن أذنت لي تكلمت. قال: قل، قال: يا أمير المؤمنين، إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف قدر فغفر. وقد جعلك الله من النسل الذي يعفون ويصفحون، قال: فطفىء غضبه وسكن.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: الواجب على من ملك أمور المسلمين الرجوع إلى الله - جل وعلا - في كل لحظة وطرفة؛ لئلا يطغيه ما هو فيه من تسلطه، بل يذكر عظمة الله وقدرته وسلطانه، وأنه هو المنتقم ممن ظلم، والمجازي لمن أحسن، فليلزم في إمرته السلوك الذي يؤديه إلى اكتساب الخير في الدارين، وليعتبر بمن مضى قبله من أشكاله؛ لأنه لا محالة مسؤول عن شكر ما هو فيه، كما هو لا محالة مسؤول عن حسابه.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: الواجب على العاقل أن لا يغتر بالدنيا وزهرتها، وحسنها وبهجتها، فيشتغل بها عن الآخرة الباقية، والنعم الدائمة، بل ينزلها حيث أنزلها الله؛ لأن عاقبتها لا محالة تصير إلى فناء: تخرب عمرانها، ويموت سكانها، وتذهب بهجتها، وتبيد خضرتها، فلا يبقى فيها رئيس متكبر مؤمر، ولا فقير مسكين محتقر، إلا ويجري عليهم كأس المنايا، ثم يصيرون إلى التراب، فيبلون حتى يرجعون إلى ما كانوا عليه في البداية إلى الفناء، ثم يرث الأرض ومن عليها علام الغيوب.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله -: الدنيا بحر طامح والناس في أمواجها يعومون، وهي أمثال تضربها الأيام للأنام - وما أكثر أشباهها بما منها - لأن كل ما يصير إلى فناء منها يشبهها، فمن أوتي من الدنيا أشياء ثلاثة، فقد أوتي الدنيا بحذافيرها: الأمن، والقوت، والصحة. لا يغتر بشيء منها إلا كل خداع، ولا يركن إليها إلا كل مناع.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: إن العاقل يعلم أن ما لم يبق لغيره عليه غير باق، وأن ما سلب عن غيره لا يترك عليه، فالقصد إلى ما يعود بالنفع في الآخرة للعاقل من الدنيا، أحرى من السلوك في قصد الضن بها، والجمع لها من غير تقديم ما يقدم عليه في الآخرة من الأعمال الصالحة، وترك الاغترار بها، والاعتبار بتقلبها بأهلها. ولا شيء أعظم خطرا من الحياة، ولا غبن أعظم من إفنائها لغير حياة الأبد، ومن اشتهى أن يكون حرا فليجتنب الشهوات، وإن كانت لذيذة. ليعلم أن كل لذيذ فليس بنافع، ولكن كل نافع فهو لذيذ. وكل الشهوات مملولة إلا الأرباح فإنها لا تمل، وأعظم الأرباح الجنة، والاستغناء بالله عن الناس.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله -: السبب المؤدي للعاقل إلى إنزاله الدنيا منزلها، ترك الركون إليها مع تقديم ما قدر منها للعيش الدائم. والنعيم المقيم: هو ترك طول الأمل، ومراقبة ورود الموت عليه في كل لحظة وطرفة؛ لأن طول الآمال قطعت أعناق الرجال، كالسراب: أخلف من رجاه، وخاب من رآه فالعاقل يلزم تركها، مع الاعتبار الدائم بمن مضى من الأمم السالفة، والقرون الماضية، كيف عفت آثارهم، واضمحلت أنباؤهم، فما بقي منهم إلا الذكر، ولا من ديارهم إلا الرسم، فسبحان من هو قادر على بعثهم وجمعهم للجزاء والعقاب.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: العاقل لا ينسى ذكر شيء هو مترقب له، ومنتظر وقوعه من قدم إلى قدم، ومن لحظة إلى شزرة، فكم من مكرم في أهله، معظم في قومه، مبجل في جيرته، لا يخاف الضيق في المعيشة، ولا الضنك في المصيبة، إذا ورد عليه مذلل الملوك، وقاهر الجبابرة، وقاصم الطغاة، فألقي صريعا بين أحبته وجيرانه، مفارقا أهل بيته وإخوانه، لا يملكون له نفعا، ولا يستطيعون عنه دفعا. فكم من أمة قد أبادها الموت، وبلدة قد عطلها، وذات بعل قد أرملها، وذي أب أيتمه، وذي إخوة أفرده.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله تعالى -: إن الله - جل وعلا - خلق آدم وذريته من الأرض، فأمشاهم على ظهرها، فأكلوا من ثمارها، وشربوا من أنهارها، ثم لا محالة تنزل المنية بهم، وتغنيهم عن السعي والحركات، مع تعطل الجثث والآلات، ثم تعيدهم إلى الأرض التي منها خلقهم، حتى تأكل لحومهم، كما أكلوا أثمارها، وتشرب دماءهم كما شربوا من أنهارها، وتقطع أوصالهم كما مشوا على ظهرها، والقبر أول منزل من منازل الآخرة، وآخر منزل من منازل الدنيا، فطوبى لمن مهد في دنياه لقبره، وقدم منها لآخرته، فكم عفرت الأرض من عزيز، وأفقدت العين من أنيس.
حكمــــــة
قال صالح المري: دخلت المقابر يوما في شدة الحر، فنظرت إلى القبور خامدة، كأنهم قوم صموت، فقلت: يا سبحان الله ! من يجمع بين أرواحكم وأجسامكم بعد افتراقها، ثم يحييكم وينشئكم من طول البلى؟ قال: فناداني مناد من بين تلك الحفر: يا صالح " ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون " [الروم: 25]. قال: فسقطت والله مغشيا علي.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الحياء اسم يشتمل على مجانبة المكروه من الخصال، والحياء حياآن: أحدهما: استحياء العبد من الله جل وعلا عند الاهتمام بمباشرة ما خطر عليه. والثاني: استحياؤه من المخلوقين عند الدخول فيما يكرهون من القول والفعل معا. والحياآن جميعا محمودان، إلا أن أحدهما فرض والآخر فضل، فلزوم الحياء عند مجانبة ما نهى الله عنه فرض، ولزوم الحياء عند مقارفة ما كره الناس فضل.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الحياء من الإيمان، والمؤمن في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجافي في النار، إلا أن يتفضل الله عليه برحمته فيخلصه منها. فإذا لزم المرء الحياء كانت أسباب الخير منه موجودة، كما أن الوقح إذا لزم البذاء كان وجود الخير منه معدوما وتواتر الشر منه موجودا؛ لأن الحياء هو الحائل بين المرء وبين المزجورات كلها فبقوة الحياء يضعف ارتكابه إياها، وبضعف الحياء تقوى مباشرته إياها.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل أن يعود نفسه لزوم الحياء، فإن من أعظم بركته تعويد النفس ركوب الخصال المحمودة ومجانبتها الخلال المذمومة، كما أن من أعظم الاستحياء من الله الفوز من النار بلزوم الحياء عند مجانبة ما نهى الله عنه؛ لأن ابن آدم مطبوع على الكرم واللؤم معا في المعاملة بينه وبين الله تعالى والعشرة بينه وبين المخلوقين، وإذا قوي حياؤه قوي كرمه، وضعف لؤمه، وإذا ضعف حياؤه قوي لؤمه وضعف كرمه.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: إن المرء إذا اشتد حياؤه صان عرضه، ودفن مساوئه ونشر محاسنه، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره هان على الناس ومقت، ومن مقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن فقد عقله، ومن أصيب في عقله كان أكثر قوله عليه لا له، ولا دواء لمن لا حياء له، ولا حياء لمن لا وفاء له، ولا وفاء لمن لا إخاء له، ومن قل حياؤه صنع ما شاء، وقال ما أحب.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: التواضع يرفع المرء قدرا، ويعظم له خطرا، ويزيده نبلا. والتواضع لله جل وعز على ضربين: أحدهما: تواضع العبد لربه عند ما يأتي من الطاعات غير معجب بفعله، ولا راء له عنده حالة توجب بها أسباب الولاية، إلا أن يكون المولى - جل وعلا - هو الذي يتفضل عليه بذلك، وهذا التواضع هو السبب الدافع لنفس العجب عن الطاعات. والتواضع الآخر: هو ازدراء المرء نفسه، واستحقاره إياها عند ذكره ما قارب من المآثم حتى لا يرى أحدا من العالم إلا ويرى نفسه دونه في الطاعات وفوقه في الجنايات.
حكمــــــة
عن مجاهد في قوله تعالى: " وكانوا لنا خاشعين " [الأنبياء: 90]. قال: متواضعين. قال أبو حاتم: العاقل يلزم مجانبة التكبر، لما فيه من الخصال المذمومة: إحداها: أنه لا يتكبر على أحد حتى يعجب بنفسه، ويرى لها على غيره الفضل. والثانية: ازدراؤه بالعالم، لأن من لم يستحقر الناس لا يتكبر عليهم، وكفى بالمستحقر لمن أكرمه الله بالإيمان طغيانا، والثالثة: منازعة الله تعالى جل وعز لصفته، إذ الكبرياء والعظمة من صفات الله تعالى ؛ فمن نازعه إحداهما ألقاه في النار، إلا أن يتفضل عليه بعفوه.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: لا يمتنع من التواضع أحد، والتواضع يكسب السلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويذهب الصد. وثمرة التواضع المحبة، كما أن ثمرة القناعة الراحة، وإن تواضع الشريف يزيد في شرفه، كما أن تكبر الوضيع يزيد في ضعته. وكيف لا يتواضع من خلق من نطفة منتنة، ويعود آخره جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة؟.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: ما استجلبت البغضة بمثل التكبر، ولا استجلبت المحبة بمثل التواضع، ومن استطال على الإخوان فلا يثقن منهم بالصفاء، ولا يجب لصاحب الكبر أن يطمع في حسن الثناء، ولا تكاد ترى تائها إلا وضيعا. فالعاقل إذا رأى من هو أكبر سنا منه تواضع له، وقال: سبقني إلى الإسلام، وإذا رأى من هو أصغر سنا منه تواضع له، وقال: سبقته إلى الذنوب، وإذا رأى من هو مثله عده أخا، فكيف يحسن تكبر المرء على أخيه، ولا يجب استحقار أحد، لأن العود المنبوذ ربما انتفع به فحك الرجل به أذنه.