2. قوائد من كتاب روضة العقلاء
حكمــــــة
عن رياح القيسي قال: إن لله ملائكة موكلين بأرزاق بني آدم، يحملون أرزاقهم على درجاتهم. ثم قال: أيما عبد من عبادي جعل همه هما واحدا فضمنوا السماوات والأرضين وبني آدم رزقه، وأي عبد طلب رزقه، فأعطوه رزقه حيث أراده، فإن تحرى مكاسبه بالعدل، فطيبوا له رزقه، وإن يغدو إلى الحرام، فليأخذوا من هواه إلى غاية درجته التي ليس فوقها، ثم حولوا بينه وبين سائر الدنيا؛ فلا يأخذن من حلالها ولا من حرامها فوق الدرجة التي كتبت له.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل أن يعلم أن السبب الذي يدرك به العاجز حاجته، هو الذي يحول بين الحازم وبين مصادفته، فلا يجب أن يحزن العاقل لما يهوى وليس بكائن، ولا لما لا يهوى وهو لا محالة كائن؛ فما كان من هذه الدنيا للمرء أتاه من غير تعب فيه، وما كان عليه لم يدفعه بقوته، ولا يدرك بالطلب المحروم، كما لا يحرم بالقعود المرزوق.
حكمــــــة
قال إسحاق بن موسى الأنصاري سمعت يمان النجراني - وكان لا يدخر شيئا - يقول: مررت براهب في قاع - فلاة من الأرض -، وأنا جائع، فقلت: يا راهب، هل عندك من فضل؟ فأدلى إلي زنبيلا فيه فلق من خبز، فأكلت منها، ورميت إليه بالباقي، فقال: تزوده، قلت: الذي أطعمني في هذا الموضع، وليس فيه إنسي، يطعمني إذا جعت، ولا يكون معي شيء.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: التوكل هو قطع القلب عن العلائق، برفض الخلائق، وإضافته بالافتقار إلى محول الأحوال، وقد يكون المرء موسرا في ذات الدنيا وهو متوكل صادق في توكله، إذا كان العدم والوجود عنده سيان، لا فرق عنده بينهما، يشكر عند الوجود، ويرضى عند العدم، وقد يكون المرء لا يملك شيئا من الدنيا بحيلة من الحيل، وهو غير متوكل، إذا كان الوجود أحب إليه من العدم، فلا هو في العدم يرضى حالته، ولا عند الوجود يشكر مرتبته.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل أن يعلم أن الأشياء كلها قد فرغ منها، فمنها ما هو كائن لا محالة، وما لا يكون فلا حيلة في تكوينه للخلق، فإن دفعه الوقت إلى حال شدة، يجب أن يتزر بإزار له طرفان: أحدهما: الصبر والآخر: الرضا. ليستوفي كمال الذخر بفعله ذلك، فكم من شدة قد صعبت، وتعذر زوالها على العالم بأسره، ثم فرج عنها السهل في أقل من لحظة.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الصبر على ضروب ثلاثة: 1- فالصبر عن المعاصي، 2- والصبر على الطاعات، 3 - والصبر عند الشدائد والمصائب. وأفضلها: الصبر عن المعاصي. فالعاقل يدبر أحواله بما يتثبت عند الأشياء الثلاثة التي ذكرناها، بلزوم الصبر على المراتب التي وصفناها قبل، حتى يرتقي بها إلى درجة الرضا عن الله - جل وعلا - في حال العسر واليسر معا، نسأل الله الوصول إلى تلك الدرجة بمنه.
حكمــــــة
عن معاذة امرأة صلة بن أشيم: لما أتاها نعي زوجها وابنها، جاءها النساء، فقالت: إن كنتن جئتن لتهنئتنا بما أكرمنا الله به وإلا فارجعن. قال ثابت: وكان صلة يأكل يوما، فأتاه رجل، فقال: مات أخوك، قال: هيهات، قد نعي إلي، اجلس فكل، فقال الرجل: ما سبقني إليك أحد، قال: قال الله: " إنك ميت وإنهم ميتون " [الزمر: 30].
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل لزوم الصفح عند ورود الإساءة عليه من العالم بأسرهم، رجاء عفو الله - جل وعلا - عنه عن جناياته التي ارتكبها في سالف أيامه؛ لأن صاحب الصفح إنما يتكلف الصفح بإيثاره الجزاء، وصاحب العقاب، وإن انتقم، كان إلى الندم أقرب، فأما من له أخ يوده، فإنه يحتمل عنه الدهر كله زلاته.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: أغنى الناس عن الحقد من عظم عن المجازاة، وأجل الناس مرتبة من صد الجهل بالعلم، وما الفضل إلا لمن يحسن إلى من أساء إليه، فأما مجازاة الإحسان إحسانا، فهو المساواة في الأخلاق، وربما استعملها البهائم في الأوقات، ولو لم يكن في الصفح وترك الإساءة خصلة تحمد، إلا راحة النفس وفراغ القلب، لكان الواجب على العاقل أن لا يكدر وقته بالدخول في أخلاق البهائم، بالمجازاة على الإساءة إساءة، ومن جازى بالإساءة إساءة فهو المسيء، وإن لم يكن بادئا.
حكمــــــة
قال لقمان الحكيم لابنه: أي بني، أي شيء أقل؟ وأي شيء أكثر؟ وأي شيء أحلى؟ وأي شيء أبرد؟ وأي شيء آنس؟ وأي شيء أوحش؟ وأي شيء أقرب؟ وأي شيء أبعد؟ قال: أما أي شيء أقل: فاليقين، وأما أي شيء أكثر: فالشك، وأما أي شيء أحلى: فروح الله بين العباد يتحابون بها، وأما أي شيء أبرد: فعفو الله عن عباده، وعفو الناس بعضهم عن بعض، وأي شيء آنس: حبيبك إذا أغلق عليك وعليه باب واحد، وأي شيء أوحش: جسد إذا مات، فليس شيء أوحش منه، وأي شيء أقرب: فالآخرة من الدنيا، وأي شيء أبعد: فالدنيا من الآخرة.
حكمــــــة
قال إسماعيل بن عبيد الله لبنيه: يا بني، أكرموا من أكرمكم، وإن كان عبدا حبشيا، وأهينوا من أهانكم، وإن كان رجلا قرشيا. قال أبو حاتم: هذا الذي قاله إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، إن استعمله العاقل في الأحوال كلها مع الجاهل فلا ضير، فأما من ارتفع عن حد الجهال، واتضع عن حد العقلاء، فالإغضاء عن مثله في الأوقات أحمد، مخافة الازدياد منه، ولأن يصبر المرء على حرارة الجفاء ومرارتها أولى من الانتقام مما يستجلب عليه بما هو أحر وأشد وأمر أيضا مما مضى؛ لأن من الكلام ما هو أشد من الحجر، وأنفذ من الإبر، وأمر من الصبر.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف، والكريم يجل الكرام، ولا يهين اللئام، ولا يؤذي العاقل، ولا يمازح الأحمق، ولا يعاشر الفاجر، مؤثرا إخوانه على نفسه، باذلا لهم ما ملك، إذا اطلع على رغبة من أخ لم يدع مكافأتها، وإذا عرف منه المودة لم ينظر في ملق العداوة، وإذا أعطاه من نفسه الإخاء لم يقطعه بشيء من الأشياء.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: أجمع أهل التجارب للدهر، وأهل الفضل في الدين، والراغبون في الجميل: على أن أفضل ما اقتنى الرجل لنفسه في الدنيا، وأجل ما يدخر لها في العقبى، هو لزوم الكرم، ومعاشرة الكرام؛ لأن الكرم يحسن الذكر، ويشرف القدر، وهو طباع ركبها الله في بني آدم، فمن الناس من يكون أكرم من أبيه، وربما كان الأب أكرم من ابنه، وربما كان المملوك أكرم من مولاه، وربما كان مولى أكرم من مملوكه.
حكمــــــة
عن حذيفة: أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث، فقال حذيفة رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة نمام» رواه مسلم. قال أبو حاتم: الواجب على الناس كافة: مجانبة الإفكار في السبب الذي يؤدي إلى البغضاء والمشاحنة بين الناس، والسعي فيما يفرق جمعهم ويبدد شملهم، فالعاقل لا يخوض في الإفكار فيما ذكرنا، ولا يقبل سعاية الواشي بحيلة من الحيل، لعلمه بما يرتكب الواشي من الإثم في العقبى بفعله ذلك.
حكمــــــة
سعى رجل بالليث بن سعد إلى والي مصر، فبعث إليه فدعاه، فلما دخل عليه، قال له: يا أبا الحارث، إن هذا أبلغني عنك كذا وكذا، فقال له الليث: سله - أصلح الله الأمير! - عما أبلغك: أهو شيء ائتمناه عليه، فخاننا فيه، فما ينبغي لك أن تقبل من خائن، أو شيء كذب علينا فيه، فما ينبغي لك أن تقبل من كاذب، فقال الوالي: صدقت يا أبا الحارث.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل لزوم الإغضاء عما ينقل الوشاة، وصرف جميعها إلى الإحسان، وترك الخروج إلى ما لا يليق بأهل العقل، مع ترك الإفكار فيما يزري بالعقل، وأنه من وشى بشيء إلى إنسان بعينه، يكون قصده إلى المخبر أكثر من قصده إلى المخبر عنه، لمشافهته إياه بالشيء الذي يشق عليه علمه وسماعه.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: هذا وأمثاله من ثمرة النميمة؛ لأنها تهتك الأستار، وتفشي الأسرار، وتورث الضغائن، وترفع الود، وتجدد العداوة، وتبدد الجماعة، وتهيج الحقد، وتزيد الضغينة، فمن وشي إليه عن أخ، كان الواجب عليه معاتبته على الهفوة إن كانت، وقبول العذر إذا اعتذر، وترك الإكثار من العتب مع توطين النفس على الشكر عند الحفاظ، وعلى الصبر عند الضياع، وعلى المعاتبة عند الإساءة.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: لا يجب للمرء أن يعتذر بحيلة إلى من لا يحب أن يجد له عذرا، ولا يجب أن يكثر من الاعتذار إلى أخيه؛ فإن الإكثار من الاعتذار هو السبب المؤدي إلى التهمة، وإني لأستحب الإقلال من الاعتذار على الأحوال كلها، لعلمي أن المعاذير يعتريها الكذب، وقل ما رأيت أحدا اعتذر إلا شاب اعتذاره بالكذب، ومن اعترف بالزلة استحق الصفح عنها؛ لأن ذل الاعتذار عن الزلة يوجب تسكين الغضب عنها، والمعتذر إذا كان محقا يخضع في قوله، ويذل في فعله.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: لا يجب للمرء أن يعلن عقوبة من لم يعلن ذنبه، ولا يخلو المعتذر في اعتذاره من إحدى حالتين: إما أن يكون صادقا في اعتذاره، أو كاذبا؛ فإن كان صادقا فقد استحق الغفران ؛ لأن شر الناس من لم يقل العثرات، ولا يستر الزلات، وإن كان كاذبا فالواجب على المرء إذا علم من المعتذر إثم الكذب وريبته وخضوع الاعتذار وذلته: أن لا يعاقبه على الذنب السالف، بل يشكر له الإحسان المحدث، الذي جاء به في اعتذاره، وليس بعيب على المعتذر إن ذل وخضع في اعتذاره إلى أخيه.
حكمــــــة
قال أبوحاتم: الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان، ويدفع الحقد، ويذهب الصد، والإقلال منه تستغرق فيه الجنايات العظيمة والذنوب الكثيرة، والإكثار منه يؤدي إلى الاتهام وسوء الرأي، فلو لم يكن في اعتذار المرء إلى أخيه خصلة تحمد إلا نفي العجب عن النفس في الحال، لكان الواجب على العاقل أن لا يفارقه الاعتذار عند كل زلة يزل.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: من حصن بالكتمان سره تم له تدبيره، وكان له الظفر بما يريد، والسلامة من العيب والضرر، وإن أخطأه التمكن والظفر، فالحازم يجعل سره في وعاء، ويكتمه عن كل مستودع ؛ فإن اضطره الأمر وغلبه أودعه العاقل الناصح له؛ لأن السر أمانة، وإفشاؤه خيانة، والقلب له وعاؤه، فمن الأوعية ما يضيق بما يودع، ومنها ما يتسع بما استودع.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الظفر بالحزم، والحزم بإحالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده، ومن أنبأ الناس بأسراره هان عليهم وأذاعوها، ومن لم يكتم السر استحق الندم، ومن استحق الندم صار ناقص العقل، ومن دام على هذا رجع إلى الجهل فتحصين السر للعاقل أولى به من التلهف بالندم بعد خروجه منه.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله -: لا بد لصاحب السر المكاتم له على ما وصفنا، أن يضيق صدره، فيشتهي إذاعة ما به، فإذا كان كذلك، اختار إفشاءه بالاستشارة مع الدين العاقل الودود له، ولا يستشير إلا من وجد فيه الخصال الثلاث التي ذكرنا؛ فإنه إن لم يكن دينا خانه، وإن لم يكن عاقلا أخطأ موضع الإصابة، وإن لم يكن وادا، ربما لم ينصحه.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: المستشار مؤتمن، وليس بضامن، والمستشير متحصن من السقط، متخير للرأي. والواجب على العاقل، السالك سبيل ذوي الحجى: أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار، فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه، وإرشاد المشير المستشير قضاء حق النعمة في الرأي. والمشورة لا تخلو من البركة إذا كانت مع مثل من وصفنا نعته.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل إذا استشير قوم هو فيهم، أن يكون آخر من يشير؛ لأنه أمكن من الفكر، وأبعد من الزلل، وأقرب من الحزم، وأسلم من السقط، ومن استشار فلينفذ الحزم بأن لا يستشير عاجزا، كما أن الحازم لا يستعين كسلانا، وفي الاستشارة عين من الهداية، ومن شاور لم يعدم رشدا، ومن ترك المشاورة لم يعدم غيا، ولا يندم من شاور مرشدا.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله -: إن من شيم العاقل عند النائبة تنوبه: أن يشاور عاقلا ناصحا ذا رأي، ثم يطيعه، وليعترف للحق عند المشورة، ولا يتمادى في الباطل، بل يقبل الحق ممن جاء به، ولا يحقر الرأي الجليل إذا أتاه الرأي الحقير؛ لأن اللؤلؤة الخطيرة لا يشينها قلة خطر غائصها الذي استخرجها، ثم يستخير الله، ويمضي فيما أشار عليه.
حكمــــــة
لما قدم علي رضى الله عنه الكوفة، لقيه المغيرة بن شعبة، فقال له: إني أشير عليك برأي فاقبله، قال: هات، قال: أقرر معاوية على الشام، تسمح لك طاعته، فإن أهل الشام قد ذاقوه فاستعذبوه، ووليهم عشرين سنة لم يعيبوا عليه، ولم يعتبوه في عرض ولا مال، فقال: والله لو سألني قرية ما وليته إياها. قال: فقال المغيرة: أراه سيلي أرضين وقريات.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: النصيحة منوطة بالتهمة، وليست النصيحة إلا لمن قبلها، كما أن الدنيا ليست إلا لمن تركها، ولا الآخرة إلا لمن طلبها، وليس على كل ذي نصح إلا الجهد، ومن لم يقبل من نصائحه ما يثقل عليه، لم يحمد غب رأيه، ومشاورة الأصم أحمد من الناصح المعرض عنه. ومن بذل نصيحته لمن لا يشكره، كان كالباذر في السباخ، وأكثر ما يوجد ترك قبول النصيحة في المعجب برأيه.