فوائد من فقه الخلق والأمر
حكمــــــة
الله عزَّ وجلَّ يقلب الليل والنهار، ويقلب ما فيهما، ويقلب أحوال العالم من حر وبرد، ونور وظلام، ورطب ويابس، وحركة وسكون، يفعل ذلك كله كما يشاء، ويسلك بذلك مسلك الحكمة البالغة التي بها يتم مراده، ويظهر ملكه وحكمته وعزته وقدرته: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}... [الأعراف: 54].
حكمــــــة
أوامر الله الشرعية نوعان: الأول: أوامر محبوبة للنفس، كالأمر بالأكل من الطيبات، ونكاح ما طاب من النساء إلى أربع، وصيد البر والبحر ونحو ذلك. الثاني: أوامر مكروهة للنفس الأمارة بالسوء، وهي نوعان: أوامر خفيفة، كالأدعية والأذكار، والصلوات وتلاوة القرآن، والسنن والآداب ونحوها. أوامر ثقيلة، كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله. والإيمان يزيد بامتثال الأوامر الخفيفة والثقيلة معاً، والقيام بالأعمال الانفرادية والاجتماعية معاً، فإذا زاد الإيمان صار المبغوض محبوباً، وصار الثقيل خفيفاً، وتحقق مراد الله من العبد بالدعوة والعبادةلربه، واطمأن بذلك قلبه، وتحركت بذلك جوارحه.
حكمــــــة
الله تبارك وتعالى له الخلق والأمر في جميع مخلوقاته: خلق الشمس وأمدها بالحركة والإنارة والحرارة.. وخلق البحر وأمده بالسيولة والملوحة.. وخلق النبات وأمده بالنمو والتكاثر والثمرات... وخلق الحيوان وأمده بالنمو والتكاثر والحركة.. وخلق الإنسان وأمده بالنمو والتكاثر، والعقل والحركة.. وخلق الدماغ وأمده بالعقل.. وخلق العين وأمدها بالبصر.. وخلق اللسان وأمده بالكلام.. وخلق الأذن وأمدها بالسمع.. وخلق الأنف وأمده بالشم.
حكمــــــة
أوامر الله نوعان: الأول: أمر كوني لا بد من وقوعه ولا يمكن لأحد رده كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. والثاني: أمر ديني شرعي، يأمر الله به عباده عن طريق رسله، فمنهم من يؤمن به، ومنهم من يخالفه كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}... [النحل: 90].
حكمــــــة
الله جل جلاله خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل أعلاه مفتقراً إلى أسفله، ولا أسفله مفتقراً إلى أعلاه، بل جعل الجميع مفتقراً إليه وحده لا شريك له. فالسماء والسحاب والهواء فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، بل الله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، ويسوق السحاب حيث شاء، ويرسل الرياح كيف شاء. والعرش والكرسي فوق السماء، وليست مفتقرة إلى حمل السماء لها، والعلي الأعلى، رب كل شيء ومليكه فوق جميع خلقه، ليس محتاجاً إلى عرشه أو كرسيه ليحمله. بل العرش والكرسي، والسموات والأرض ومن فيهن، والملائكة والروح، والإنس والجن، والخلق كلهم محتاجون إلى الله سبحانه في خلقهم وبقائهم
حكمــــــة
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ } [يونس: 101]. كل إنسان.. وكل حيوان.. كل طائر.. كل زاحفة.. كل حشرة.. كل دودة.. كل نبتة.. كل شجرة.. لا بل كل جناح في يرقة.. وكل ورقة في زهرة.. كل واحدة من تلك آية في خلقها.. وآية في شكلها.. وآية في منافعها. غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالجولة في هذا المعرض الهائل إلا القلب العامر بالإيمان واليقين: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ }... [الذاريات: 20].
حكمــــــة
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }... [الذاريات: 21]. مثل هذا المعرض العظيم الواسع المفتوح مكنون فينا نحن البشر، الذي انطوى فيه أسرار الوجود كله لمن يريد أن يبصر ويستبصر.. ولمن يريد أن يستيقن.. ولمن يريد أن يملأ حياته بالمتعة والسرور.. ويروي قلبه بالإيمان واليقين.. ويرى إبداع الحكيم العليم في الخلق والتصوير.. والتصريف والتدبير: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [النازعات: 26].
حكمــــــة
الأحياء التي خلقها الله قسمان: منها ما له بداية وليس له نهاية: وهم بنو آدم، فإن بدايتهم معلومة، ونهايتهم الخلود في الجنة أو النار، ومثلهم الجن، ومن شاء الله مما لا نعلمه. ومنها ما له بداية وله نهاية وهو باقي المخلوقات التي يقال لها يوم القيامة كوني تراباً. فهذا الخلاق العظيم.. وهذا خلقه.. وهذه قدرته.. وهذه آياته: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } [الجاثية: 6].
حكمــــــة
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. الله تبارك وتعالى هو الملك الذي يملك كل شيء، القوي الذي لا يعجزه شيء، الخالق الذي خلق كل شيء. خلق العرش واستوى عليه، وأمر الملائكة بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به. وخلق البيت المعمور في السماء السابعة، وأمر الملائكة بالطواف به. وخلق سبحانه البيت العتيق في الأرض، وأمر بني آدم بالطواف به، واستقباله في الصلاة. وعرش الرحمن عزَّ وجلَّ سرير ذو قوائم.. تحمله الملائكة.. وهو كالقبة على العالم.. وهو سقف المخلوقات.. وأعظم المخلوقات.. وأعلى المخلوقات.. وأوسع المخلوقات.. وأكبر المخلوقات.. فالله سبحانه مجيد.. وعرشه مجيد.
حكمــــــة
والكرسي أعظم المخلوقات بعد العرش كما قال سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. والله تبارك وتعالى فوق سماواته، مستو على عرشه، عال على خلقه، لا يخفى عليه شيء من أمرهم: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} [النمل: 26]. وإذا كانت هذه عظمة كرسيه.. فكم تكون عظمة عرشه الذي وصفه بأنه عظيم..؟. وكم تكون عظمة الرب الذي استوى عليه جلَّ جلاله..؟. أفيليق بمن هذه صفاته.. وهذه أفعاله.. وهذه عظمته.. أن يسكن العبد في ملكه.. ويأكل من رزقه.. ويكفر به.. ويستكبر عن عبادته وطاعته..؟.
حكمــــــة
من أراد أن ينظر إلى عظمة الخالق فلينظر إلى مخلوقاته ومصنوعاته، وعظمة أسمائه وصفاته، وآلائه ونعمه، وسعة خزائنه. فما أعظم صنع الله في ملكوت السموات، وعلوها وسعتها، واستدارتها، وعظم خلقها، وحسن بنائها، وجمالها: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6]. فتأمل خلق السماء، وما فيها من عجائب المخلوقات، وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها، ومقاديرها وأشكالها، وتفاوت مشارقها ومغاربها.
حكمــــــة
ولعظمة خلق السموات قل أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها: إما إخباراً عن عظمتها وسعتها.. وإما إقسامًا بها.. وإما دعاءً إلى النظر إلى خلقها وعظمتها.. وإما إرشاد للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها.. وإما استدلال منه بربوبيته لها مع وحدانيته.. وإما استدلال بخلقها على ما أخبر به من المعاد.. وإما استدلال بحسنها واستوائها وإمساكها على تمام قدرته وحكمته عزَّ وجلَّ.
حكمــــــة
خلق الأرض متقدم على خلق السموات كما قال سبحانه: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} [فصلت: 9 - 12].
حكمــــــة
النظر إلى السماء نوعان: الأول: نظر إليها بالبصر الظاهر، فيرى مثلاً زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها، وهذا نظر يشارك فيه الإنسان غيره من الحيوانات، وليس هو المقصود. الثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها، وبين ملائكتها، الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويرى أنبياء الله ورسله الذين بلغوا دينه إلى عباده، آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السابعة، وغيرهم في السموات الأخرى.
حكمــــــة
خلق سبحانه الدنيا.. وجعلها دار الإيمان والعمل.. وخلق الآخرة.. وجعلها دار الثواب والعقاب. ولا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: الأول: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها، والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنكد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع، وما يعقب ذلك من الحسرة.فطالب الدنيا لا ينفك من همِِِّ قبل حصولها، وهمِِِّ في حال الظفر بها، وغمِِِّ وحزن بعد فواتها. الثاني: نظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من اللذات والنعيم، والخيرات والمسرات.
حكمــــــة
فإذا عرف العبد ربه: نشأ من ذلك محبة الله وتعظيمه، وطاعته، والتوكل عليه. وإذا عرف نفسه: نشأ من ذلك الحياء والخوف من الله، والتواضع له، والافتقار إليه، والتوكل عليه. وإذا عرف الدنيا، وسرعة زوالها؛ نشأ من ذلك شدة الرغبة عنها. وإذا عرف الآخرة، وكمال نعيم الجنة، نشأ من ذلك شدة الرغبة فيها، والمسارعة إلى الأعمال التي توصل إليها. وإذا عرف شدة عذاب النار: نشأ من ذلك شدة الفرار منها بالحذر من الشرك والمعاصي.
حكمــــــة
فسرور الدنيا كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، إقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها. إن مشيت عليها حملتك، وإن حملتها قتلتك، وإن أقبلت عليك شغلتك، وإن أدبرت عنك أحزنتك، وإن تكثرت منها أطغتك كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7].
حكمــــــة
من أراد الدنيا فعمل لها وسعى، ونسي المبتدأ والمنتهى، عجل الله له من حطامها ومتاعها ما شاء مما كتب له، ولكنه متاع غير نافع ولا دائم له، ثم جعل له في الآخرة العذاب والفضيحة كما قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)} [الإسراء: 18].