متفرقات
متفرقات
قال ابن القيم:
وفَصْلُ النِّزاعِ، أنْ يُقالَ: التَّطْرِيبُ والتَّغَنِّي عَلى وجْهَيْنِ، أحَدُهُما: ما اقْتَضَتْهُ الطَّبِيعَةُ وسَمَحَتْ بِهِ مِن غَيْرِ تَكَلُّفٍ ولا تَمْرِينٍ ولا تَعْلِيمٍ، بَلْ إذا خُلِّيَ وطَبْعَهُ، واسْتَرْسَلَتْ طَبِيعَتُهُ جاءَتْ بِذَلِكَ التَّطْرِيبِ والتَّلْحِينِ فَذَلِكَ جائِزٌ، وإنْ أعانَ طَبِيعَتَهُ بِفَضْلِ تَزْيِينٍ وتَحْسِينٍ كَما قالَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ لِلنَّبِيِّ ﷺ («لَوْ عَلِمْتُ أنَّكَ تَسْمَعُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا») والحَزِينُ ومَن هاجَهُ الطَّرَبُ والحُبُّ والشَّوْقُ لا يَمْلِكُ مِن نَفْسِهِ دَفْعَ التَّحْزِينِ والتَّطْرِيبِ فِي القِراءَةِ، ولَكِنَّ النُّفُوسَ تَقْبَلُهُ وتَسْتَحْلِيهِ لِمُوافَقَتِهِ الطَّبْعَ، وعَدَمِ التَّكَلُّفِ والتَّصَنُّعِ فِيهِ فَهُوَ مَطْبُوعٌ لا مُتَطَبَّعٌ، وكَلَفٌ لا مُتَكَلَّفٌ، فَهَذا هُوَ الَّذِي كانَ السَّلَفُ يَفْعَلُونَهُ ويَسْتَمِعُونَهُ، وهُوَ التَّغَنِّي المَمْدُوحُ المَحْمُودُ، وهُوَ الَّذِي يَتَأثَّرُ بِهِ التّالِي والسّامِعُ، وعَلى هَذا الوَجْهِ تُحْمَلُ أدِلَّةُ أرْبابِ هَذا القَوْلِ كُلُّها.
الوَجْهُ الثّانِي: ما كانَ مِن ذَلِكَ صِناعَةً مِنَ الصَّنائِعِ، ولَيْسَ فِي الطَّبْعِ السَّماحَةُ بِهِ، بَلْ لا يَحْصُلُ إلّا بِتَكَلُّفٍ وتَصَنُّعٍ وتَمَرُّنٍ، كَما يُتَعَلَّمُ أصْواتُ الغِناءِ بِأنْواعِ الألْحانِ البَسِيطَةِ، والمُرَكَّبَةِ عَلى إيقاعاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وأوْزانٍ مُخْتَرَعَةٍ، لا تَحْصُلُ إلّا بِالتَّعَلُّمِ والتَّكَلُّفِ، فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي كَرِهَها السَّلَفُ وعابُوها وذَمُّوها ومَنَعُوا القِراءَةَ بِها وأنْكَرُوا عَلى مَن قَرَأ بِها .
زاد المعاد ٤٧٤/١