ابن القيم
فوائد من مدارج السالكين 1
لا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوهِ، وإغاظته له، وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه. قال تعالى (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً). سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغماً يرام به عدو الله وعدوه، والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته، كما قال تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
فوائد من مدارج السالكين 1
من تعبد الله بمراغمة عدوه، فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه، وموالاته ومعاداته لعدوه، يكون نصيبه من هذه المراغمة، ولأجل هذه المراغمة حمِد التبختر بين الصفين، والخيلاء والتبختر عند صدقة السر، حيث لا يراه إلا الله، لما في ذلك من إرغام العدو، وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عز وجل. وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس، ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول
فوائد من مدارج السالكين 2
للعبد فيما يصيبه من أذى الخلق مشاهد. منها: مشهد الصبر فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور. مشهد العفو والصفح والحلم فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته: لم يعدل عنه إلا لعشي في بصيرته فإنه ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، هذا وفي الصفح والعفو والحلم: من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام: ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام
فوائد من مدارج السالكين 2
قال المسيح عليه السلام: (إن كنت قلته فقد علمته) ولم يقل: لم أقله وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب، ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره فقال: (تعلم ما في نفسي) ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه فقال: (ولا أعلم ما في نفسك) ثم أثنى على ربه ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها فقال: (إنك أنت علام الغيوب)
فوائد من كتاب الفوائد 1
قوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} (الآية: 24 من سورة الأنفال.) المشهور في الآية أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته، وبين أهل معصيته وبين طاعته، وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين. وفي الآية قول آخر: أن المعنى: أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية فهو بينه وبين قلبه، ذكره الواحدي عن قتادة، وكان هذا أنسب بالسياق؛ لأن الاستجابة أصلها بالقلب، فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب، فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه، فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه؟
فوائد من كتاب الفوائد 1
قوله تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا } (سورة الفرقان الآية 73.) قال مقاتل: إذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صما لم يسمعوه، وعميانا لم يبصروه، ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به. وقال ابن عباس: لم يكونوا عليها صما وعميانا، بل كانوا خائفين خاشعين. وقال الكلبي: يخرون عليها سمعا وبصَرا. وقال الفراء: وإذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوه
فوائد من كتاب الفوائد 1
من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه بنعيم الإقبال عليه والإنابة إليه. وأعجب من هذا علمك أنك لا بد لك منه وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغب.
فوائد من كتاب الفوائد 1
من فقد أنسه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف. ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول. ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله، ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم، ومن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه في أي شيء استعمله كان مزيده في خلوته ومع الناس، فأشرف الأحوال ألا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه.
فوائد من كتاب الفوائد 1
قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} يتضمن بيان أن العبد لا سبيل له إلى سعادته إلا باستقامته على الصراط المستقيم، وأنه لا سبيل له إلى الاستقامة على الصراط إلا بهدايته. وقوله: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} يتضمن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم، وأن الانحراف إلى أحد الطرفين انحراف إلى الضلال الذي هو فساد العلم والاعتقاد، والانحراف إلى الطريق الآخر انحراف إلى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل. فأول السورة رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة.
فوائد من كتاب الفوائد 1
يتضمن قول العبد في الحديث (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك)ان العبد ليس له غير باب سيده وفضله وإحسانه. وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك ولم يؤهِ أحد، ولم يعطف عليه، بل يضيع أعظم ضيعة. وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبَّر مأمور منهي، إنما يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه، فليس هذا شأن العبد بل شأن الملوك الأحرار، وأما العبيد فتصرفهم على محض العبودية. ويتضمن التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة وامتثال أمر سيده واجتناب نهيه ودوام الافتقار إليه واللجأ إليه والاستعانة به والتوكل عليه. وفيه أيضاً: إني عبد من جميع الوجوه: صغيراً وكبيراً، حياً وميتاً، مطيعاً وعاصياً، معافى ومبتلى بالروح والقلب واللسان والجوارح.
فوائد من كتاب الفوائد 1
قوله تعالى (ألهاكم التكاثر) يدخل فيه كل ما يكاثر به العبدُ غيره، سوى طاعة الله ورسوله، وما يعود عليه بنفع معاده، فهو داخل في هذا التكاثر، فالتكاثر في كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أو علم، ولا سيما إذا لم يحتج إليه، والتكاثر في الكتب والتصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها، والتكاثر أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره، وهذا مذمـوم إلا فيما يقرب إلى الله، فالتكاثر فيه منافسـة في الخيرات ومسابقة إليها