بابُ كيفيّة السَّلام
فصل
وأقل السَّلام الذي يصير به مؤدّياً سنّة السلام أن يرفع صوته بحيث يُسمع المسلَّم عليه، فإن لم يُسْمعه لم يكن آتياً بالسلام، فلا يجب الردّ عليه. وأقلّ ما يسقط به فرض ردّ السلام أن يرفع صوتَه بحيث يسمعه المسلِّم، فإن لم يسمعه لم يسقط عنه فرض الردّ، ذكرهما المتولي وغيره.
قلت: والمستحبّ أن يرفع صوته رفعاً يسمعه به المسلَّم عليه أو عليهم سماعاً محققاً، وإذا تشكك في أنه يسمعهم زاد في رفعه، واحتاط واستظهر، أما إذا سلَّم على أيقاظ عندهم نيام، فالسنّة أن يخفضَ صوتَه بحيث يَحصل سماعُ الأيقاظ ولا يستيقظ النيام.
روينا في صحيح مسلم، في حديث المقداد رضي اللّه عنه الطويل، قال: كنّا نرفع للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم نَصيبه من اللبن، فيجيء من الليل فيسلّم تسليماً لا يُوقظ نائماً ويُسمِع اليقظانَ، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما، فجاء النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فسلَّم كما كان يُسلِّم. واللّه أعلم.
فصل
روينا في صحيح البخاري، عن أنس رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم؛ أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم سلَّمَ عليهم ثلاثاً.
قلت: وهذا الحديث محمولٌ على ما إذا كان الجمعُ كثيراً، وسيأتي بيان هذه المسألة وكلام الماوردي صاحب الحاوي فيها إن شاء اللّه تعالى.
ذكـــــر
اعلم أن الأفضل أن يقول المسلم: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلَّم عليه واحداً، ويقولُ المجيب: وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَركاتُه، ويأتي بواو العطف في قوله: وعليكم.
وممّن نصّ على أن الأفضل في المبتدىء أن يقول " السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته " الإِمام أقضى القضاة أبو الحسن الماورديّ في كتابه " الحاوي " في كتاب السِّيَر، والإِمام أبو سعد المتولي من أصحابنا في كتاب " صلاة الجمعة " وغيرها.
ودليله ما رويناه في مسند الدارمي وسنن أبي داود والترمذي، عن عمران بن الحصين رضي اللّه عنهما قال: " جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فردّ عليه ثم جلس، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: عَشْرٌ، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه، فردّ عليه ثم جلس، فقال: عِشْرُونَ، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاتُه، فردّ عليه فجلس، فقال: " ثلاثُونَ " . فقال الترمذي: حديث حسن.
وفي رواية لأبي داود، من رواية معاذ بن أنس رضي اللّه عنه، زيادة على هذا، قال: " ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ومغفرته، فقال: أرْبَعُونَ، وقال: هَكَذَا تَكُونُ الفَضَائِلُ " .(9)
2/608 وروينا في كتاب ابن السني، بإسناد ضعيف، عن أنس رضي اللّه عنه قال: كان رجلٌ يمرّ بالنبيّ صلى اللّه عليه وسلم يَرعى دوابّ أصحابه فيقول: السلام عليك يا رسول اللّه! فيقول له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: " وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانُهُ " ، فقيل: يا رسول اللّه! تُسَلِّم على هذا سلاماً ما تُسلِّمه على أحدٍ من أصحابك؟ قال: " وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذلكَ وَهُوَ يَنْصَرِفُ بأجْرِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً؟ " .
قال أصحابنا: فإن قال المبتدىء: السلام عليكم، حصل السَّلامُ، وإن قال: السلام عليكَ، أو سلام عليكَ، حصل أيضاً. وأما الجواب فأقلّه: وعليكَ السلام، أو وعليكم السلام، فإن حذف الواو فقال: عليكم السَّلام أجزأه ذلك وكان جواباً، هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي نصّ عليه إمامنا الشافعي رحمه اللّه في " الأُم " وقال به جمهور من أصحابنا. وجزم أبو سعد المتولّي من أصحابنا في كتابه " التتمة " بأنه لا يجزئه ولا يكون جواباً، وهذا ضعيف أو غلط، وهو مخالفٌ للكتاب والسنّة ونصّ إمامنا الشافعي.
أما الكتاب فقال اللّه تعالى: {قالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ} [هود:69] وهذا وإن كان شرعاً لِما قَبْلنا فقد جاء شرعنا بتقريره، وهو حديث أبي هريرة الذي قدَّمناه (11) في جواب الملائكة آدم صلى اللّه عليه وسلم، فإن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أخبرنا " أن اللّه تعالى قال: هي تحيتك وتحية ذرّيتك " وهذه الأمة داخلة في ذرّيته، واللّه أعلم.
واتفق أصحابنا على أنه لو قال في الجواب: عليكم لم يكن جواباً، فلو قال: وعليكم بالواو فهل يكون جواباً؟ فيه وجهان لأصحابنا؛ ولو قال المبتدىء: سلام عليكم، أو قال: السلام عليكم، فللمُجيب أن يقول في الصورتين: سلام عليكم، وله أن يقول: السلام عليكم، قال اللّه تعالى: {قالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ} قال الإِمام أبو الحسن الواحديّ من أصحابنا: أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار؛ قلت: ولكن الألف واللام أولى.