ما هو سر الصلاة ؟ و تمثيل لذلك
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
و كان سرُّ الصلاة و لُبها إقبال القلب فيها على الله، و حضوره بكلِّيته بين يديه، فإذا لم يقبل عليه و اشتغل بغيره و لهى بحديث نفسه، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا من خطاياه و زلله مستمطرا سحائب جوده و كرمه و رحمته، مستطعما له ما يقيت قلبه، ليقوى به على القيام في خدمته، فلما وصل إلى باب الملك، و لم يبق إلا مناجته له، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا و شمالا، أو ولاه ظهره، و اشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك، و أقلّه عنده قدرا عليه، فآثره عليه، و صيَّره قلبة قلبه، و محلَّ توجهه، و موضع سرَّه، و بعث غلمانه و خدمة ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضا عنه و يعتذروا عنه، و ينوبوا عنه في الخدمة، و الملك يشاهد ذلك و يرى حاله مع هذا، فكرم الملك وجوده و سعة برّه و إحسانه تأبي أن يصرف عنه تلك الخدم و الأتباع، فيصيبه من رحمته و إحسانه ؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين، و بين الرضَّخ لمن لا سهم له: { و لكل درجات ممَّا عملوا و ليُوَفيهم أعمالهم و هم لا يظلَمون }[الأحقاف:19]، و الله سبحانه و تعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه و اختصه له، و خلق كل شيء له، و من أجله كما في الأثر الإلهي: " ابن آدم خلقتك لنفسي، و خلقت كلِّ شيء لك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عمَّا خلقتك له ". و في أثر آخر: " ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب و تكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن و جدتني و جدت كلّ شيء، و إن فُتَّك فاتك كلّ شيء، و أنا أحب إليك من كلّ شيء ". و جعل سبحانه و تعالى الصلاة سببا موصلا إلى قُربه، و مناجاته، و محبته و الأنس به.