باب الإيمان بالقدر
متى كان تقدير مقادير الخلق
مسلم القدر (2653) ، الترمذي القدر (2156) ، أحمد (2/169). إ
عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم: نّ اللَّه قدّر مقادير الخلائِقِ قبل أنْ يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنةٍ قال: عرشه على الماء ".
----------------
القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله الإيمان بالقدر فيتضمن الإيمان بأمور أربعة: أولها: أن اللَّه سبحانه قد علم ما كان وما يكون وعلم أحوال عباده وعلم أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وغير ذلك من شؤونهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقال عزّ وجل: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وثانيها: كتابته سبحانه لكل ما قدره وقضاه، كما قال سبحانه: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ وقال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وثالثها: الإيمان بمشيئته النافذة ؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وقال عزّ وجل: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وقال سبحانه: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ورابعها: خلقه سبحانه لجميع الموجودات لا خالق غيره ولا رب سواه، كما قال سبحانه: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فالإيمان بالقدر يشمل هذه الأمور الأربعة عند أهل السنّة والجماعة خلافا لمن أنكر بعض ذلك من أهل البدع
وجوب العمل وعدم التواكل
البخاري تفسير القرآن (4666) ، مسلم القدر (2647) ، الترمذي تفسير القرآن (3344) ،
عن علي بن أبي طالب - رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم: " ما منكم من أحدٍ إلا وقد كتب مقعده من النّارِ ومقعده من الجَنَّةِ " قالوا: يا رسول اللَّه! أفلا نتكل على كتابِنا وندع العمل؟! قال: " اعملوا فكلٌّ ميسّر لما خلِق له ؛ أمّا من كان من أهل السّعادةِ فسييسّر لِعمل أهل السّعادة، وأمّا من كان من أهل الشَّقاوةِ، فسييسّر لِعمل أهل الشّقاوة ثمّ قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل: 6]
----------------
قال البغوي (1 / 133): قال الخطابي: قولهم: " أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ": مطالبة منهم بأمر يوجب تعطيل العبودية وذلك إن إخبار النبي صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم عن سابق الكتاب إِخبار غيب علم اللَّه سبحانه وتعالى فيهم وهو حجة عليهم، فرام القوم أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل، فأعلمهم النبي صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم أن هاهنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن: هو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر: هو السمة اللازمة في حق العبودية، وهي إمارة مخيلة غير مفيدة حقيقة العلم، ويشبه أن يكون- واللَّه أعلم- إنما عوملوا بهذه المعاملة وتعبدوا بهذا التعبد ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم والخوف والرجاء مدرجتا العبودية ليستكملوا بذلك صفة الإيمان، ويبين لهم أن كلا ميسر لما خلق له، وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل، وتلا قوله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وهذه الأمور في حكم الظاهر، ومن وراء ذلك علم اللَّه عزّ وجل فيهم وهو الحكيم الخبير لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. واطلب نظيره في أمرين من الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب ومن الأجل المضروب في العمر مع المعالجة بالطب، فإنك تجد المغيّب فيهما علة موجبة والظاهر البادي سببا مخيلا، وقد اصطلح الناس خواصهم وعوامهم على أن الظاهر فيهما لا يترك بالباطن.
أخذ الله الميثاق علينا ونحن في ظهر آدم عليه السلام
الترمذي تفسير القرآن (3075) ، أبو داود السنة (4703) ، أحمد (1/45) ، مالك الجامع (1661).
عن مسلم بن يسارٍ الجهني قال:سئِل عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه عنه- عن هذه الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فقال عمر - رضي اللَّه عنه- سمعت رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم سئل عنها، فقال: " إنّ اللَّه خلق آدم ثمّ مسح ظهره بِيمينِهِ، فاستخرج منه ذرية فقال: خلقْت هؤلاء للجنّةِ وبعمل أهل الجَنَّةِ يعملون، ثمّ مسح ظهره فاستخْرج منه ذرِّية فقال: خلقت. هؤلاء للنّار وبعمل أهلِ النّار يعملون " فقال رجلٌ: يا رسول اللَّه ففيم العمل؟ فقال: " إنّ اللَّه إذا خلق العبد للجنّةِ استعمله بعمل أهل الجَنَّةِ حتّى يموت على عمل من أعمال أهل الجَنَّةِ فيدخله به الجَنَّة، وإذا خلق العبد للنّارِ استعمله بعمل أهل النّار حتّى يموت على عمل من أعمال أهل النّار فيدخله النّار.
----------------
وإِذ أخذ: أي: أخرج. ثم مسح ظهره: أي ظهر آدم. ففيم العمل؟: أي: إذا كان كما ذكرت يا رسول اللَّه- من سبق القدر- ففي أيِّ شيء يفيد العمل، أو بأي شيء يتعلق العمل أو فلأي شيء أمرنا بالعمل؟! استعمله بعمل أهل الجَنَّة: أي: جعله عاملا به ووفقه للعمل به.
كتابة العمل والأجل والرزق وشقي أو سعيد ونحن في بطون أمهاتنا
البخاري بدء الخلق (3036) ، مسلم القدر (2643) ،
عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه عنه- قال: حدثنا رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم وهو الصادق المصدوق: نّ أحدكم يجمع خلْقه في بطنِ أمِّه أربعين يوما نطفة، ثمّ يكون علقة مثل ذلك، ثمّ يكون مضغة مثل ذلك، ثمّ يبعث اللَّه إليه ملكا بأربع كلمات: فيكتب عمله وأجله ورِزقه وشقِي أو سعيد، ثمّ ينفخ فيه الروح، فوالّذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجَنَّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخلها ؛ وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النّار حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراعٌ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجَنَّة فيدخلها "
----------------
قال الحافظ في " الفتح " (11 / 479): المراد بالنطفة المني وأصله الماء الصافي القليل، والأصل في ذلك إن ماء الرجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع وأراد اللَّه أن يخلق من ذلك جنينا هيأ أسباب ذلك. قال ابن الأثير في " النهاية ": يجوز أن يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم، أي: تمكث النطفة أربعين يوما تخمّر فيه حتى تتهيأ للتصوير ثم تخلّق بعد ذلك. ثم يكون علقة: يكون هنا بمعنى يصير، ومعناه أنها تكون بتلك الصفة مدة الأربعين ثم تنقلب إِلى الصفة التي تليها. العلقة: الدم الجامد الغليظ سمّي بذلك للرطوبة التي فيه وتعلّقه بما مر به. المضغة: قطعة اللحم سميت بذلك لأنها قدر ما يمضغ الماضغ. والمراد من كتابة الرزق تقديره قليلا أو كثيرا وصفته حلالا أو حراما، وبالأجل: هل هو طويل أو قصير؟ وبالعمل صالح أو فاسد. ومعنى شقي أم سعيد: أن الملك يكتب إِحدى الكلمتين كأن يكتب مثلا أجل هذا الجنين كذا ورزقه كذا وعمله كذا وهو شقي باعتبار ما يختم له وسعيد باعتبار ما يختم له كما دلّ عليه الخبر. وفي الحديث حث على القناعة والزجر الشديد عن الحرص لأن الرزق إذ كان قد سبق تقديره لم يغْنِ التغني في طلبه وإنما شرع الاكتساب لأنه من جملة الأسباب التي اقتضتها الحكمة في دار الدنيا.
ن الله خلق للجنة أهلا وهم في أصلاب أبنائهم وخلق للنار أهلا وهم في أصلاب آبائهم
مسلم القدر (2662) ، النسائي الجنائز (1947) ، أبو داود السنة (4713) ،
عن عائشة - رضي اللَّه عنها- قالت: دعي رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت طوبى له، عصفورٌ من عصافير الجَنَّة لم يعمل سوء ولم يدركه، فقال: أو غير ذلك يا عائشة ! إنّ اللَّه خلق للجنةِ أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم.
----------------
أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجَنَّة ؛ لأنه ليس مكلفا، وتوقّف فيه بعض من لا يعتدّ به لحديث عائشة هذا. أما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب، قال الأكثرون: هم في النَّار تبعا لآبائهم، وتوقفت طائفة منهم، والثالث- وهو الصحيح- الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجَنَّة ويستدل له بأشياء، منها حديث إبراهيم عليه السلام حين رآه النبي صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم في الجَنَّة ومن حوله أولاد الناس، قال: يا رسول اللَّه وأولاد المشركين؟، قال: " وأولاد المشركين، رواه البخاري في " صحيحه ".
كل شيء بقدر
مسلم القدر (2655) ، أحمد (2/110) ، مالك الجامع (1663).
عن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم: كلّ شيء بقدرٍ حتى العجز والكيس.
----------------
العجز: عدم القدرة، وقيل: ترك ما يجب فعله والتسويف به وتأخيره عن وقته، ويحتمل العجز عن الطاعات. والكيس: ضد العجز وهو النشاط والحذق بالأمور، ومعناه أن العاجز قد قدر عجزه والكيس قد قدر كيسه.
معنى قول الله تنزل الملائكة والروح فيها
رواه عبد الرزاق وابن جرير .
عن قتادة - رضي اللَّه عنه- في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قال: " يقْضى فيها ما يكون في السّنة إلى مثلها ".
----------------
إذ ما قضاه الله تعالى وحكم بوجوده قد كتب في اللوح المحفوظ ومنه القرآن الكريم ثم في ليلة القدر تؤخذ نسخة من أحداث السنة فتعطى الملائكة وتنفذ حرفيا في تلك السنة، ولذلك كان لليلة القدر بمعنى التقدير شأن عظيم ففضلها الله على ألف شهر وأخبر عن سبب فضلها أن الملائكة تتنزل فيها وجبريل معهم بإِذن ربهم أي ينزلون بإِذن الله تعالى لهم وأمره إياهم بالنزول ينزلون مصحوبين بكل أمر قضاه الله وحكم به في تلك السنة من خير وشر من رزق وأجل ولفضل هذه الليلة كانت العبادة فيها تفضل غيرها من نوعها بأضعاف مضاعفة إذ عمل تلك الليلة يحسب لصاحبه عمل ألف ليلة أي ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر.
الإيمان بالقدر يوجد طعم الإيمان
عن الوليد بن عبادة قال: الترمذي القدر (2155). دخلت على أبي وهو مريضٌ أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني ؛ فلمّا أجلسوه، قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم باللَّه تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم يقول: " أوّل ما خلق اللَّه القلم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة... " يا بني إن مِتّ ولست على ذلك دخلت النّار.
----------------
ودليله ايضا حديث ذاق طعم الايمان: وفيه من رضى بالله ربا والرضا بالقدر من الرضى بالله ربا
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف
عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم: المؤمن القوي خير وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن باللَّه ولا تعجزن، فإنْ أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا! ولكن قل: قدر اللَّه وما شاء فعل ؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان.
----------------
وفيه ان المؤمن بالقضاء والقدر اعلى درجه وقوه من غيره