تنبيهات قبل علاج القلوب
1. لا تردَّ الدواء أو تتهاون فيه : قال ابن القيم : " حذارِ حذارِ من أمرين لهما عواقب سوء : أحدهما : رد الحق لمخالفته هواك ، فإنك تعاقب بتقليب القلب ، وردِّ ما يَرِدُ عليك من الحق رأسا ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك. قال تعالى : ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : 110 ] ، فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك. والثاني : التهاون بالأمر إذا حضر وقته ، فإنك إن تهاونت به ثبَّطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك. قال تعالى : ﴿ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾ [ التوبة : 83 ] ، فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فليهنه السلامة " .
داوم تصل : طالب الشفاء اليوم لا ينال مراده بعبادة يوم وليلة ، بل لا بد من مداومة ، وقد تبين في حديث العسل أن المريض لم يجد أثر الدواء حتى تناول ثلاث جرعات ، وليس ذلك في أمراض الأبدان فحسب بل في أمراض القلوب كذلك ، فالنفس لا تقبل أثر الطاعة ولا تتشرب فائدتها إلا بعد مدة ومواظبة عليها ، ذلك أن عقبة البدء كؤود ، يصعِّبها الشيطان عليك ، ويضع أمامك الحواجز والمثبطات ، لكن مع البدء وبداية تسلل الإيمان إلى القلب ، وانتشار حلاوته في الروح ، تلين القلوب للطاعة ويستنير الصدر للإنابة ، وصدق ابن الجوزي حين قال : " إذا استقام للجواد الشوط لم يُحوِج راكبه إلى السوط " .
لحظة التأخير القاتلة : تأخير المحاولة ليس في صالحك ، وتأجيل جرعة الدواء عن ميعادها يزيد المرض رسوخا ، والمقاومة انهيارا ، والنفس إلفا لما يضرها ، وبغضا لما ينفعها ، لأن التأخير يمنح الفرصة للسم بأن يسري إلى القلب ويتمكن منه ، والقلب منبع الحياة ، فينشأ عن ذلك أبشع الأثر ، وبتأخِّرك عن تناول الجرعة المقررة مرة من بعد مرة ستصل حتما إلى الجرعة الحرجة التي لو لم تتناولها لمات قلبك في الحال ، ولا عزاء في القلوب الغافلة!! أخي .. التسويف سم الأعمال وعدو الكمال ، ومن ترك المبادرة اليوم وارتمى في أحضان (سوف) وقع فريسة لأسدين عظيمين : أحدهما تراكم ظلمة المعصية على قلبه حتى تصير رينا وطبعا وأقفالا يستحيل معها الشفاء ، والثاني أن يباغته الموت فتضيع فرصة للنجاة
أخي طالب الشفاء : " إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس " . هكذا قالها ابن عطاء وصدق ، فإن كنت تظن أن الشيطان سيعطيك مهلة للتوبة ، أو سيمنحك الفرصة لتلتقط أنفاسك ، أو سيتركك فارغا لتراجع نفسك وتتعافى ، فاعلم أنك واهم ، فالعجل العجل .. والبدار البدار ، واذكر أن الكسل آفة أعجز المرضى ، وما بسقت فروع ندم إلا من بذرة كسل ، ومن ملَّ الحركة حُرِم البركة ، ومن أضاع الفرصة تجرَّع الغُصة ، فخاطب نفسك بقولك : إن كان لك في الشفاء نصيب فالآن وإلا فهيهات ، فإن من أجَّل أمره إلى الغد لم يفلح إلى الأبد ، وفي المقابل : ما حُرِم مبادِر إلا فى النادر ، فهيا!! الآن .. وفي التو واللحظة .. ليس الأمر شاقا .. ووالله ما هي إلا سفرة قلب وأنت على الفراش .. دون أن تفارق مكانك .. كل المطلوب منك أن تُشهِد ربك على إرادة الشفاء ، وأن تبرم العقد معه على شراء العفو ، وتقطع تذاكر الرجوع إليه ، فإن فعلت .. فاجعل دون الوفاء بعهدك الموت!!
أخي المريض : لا تشغل نفسك كثيرا بسؤال : كيف حال قلبي الآن ، وليكن همك همك الأول : هل بدأت رحلة العلاج أم ليس بعد ، فإن هذا الطريق من مشى فيه خطوة تلقَّفته أيادي الرحمة الإلهية والعناية الربانية لتوصله إلى ألذ نهاية وفي سرعة البرق.
اختر دواءك بنفسك : هذه نصيحة أهداها إليك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأمسكها بكلتي يديك وعضَّ عليها بناجزيك ، فقد كان ابن مسعود قليل الصوم ، وكان يقول : " إذا صمت ضعفت عن الصلاة ؛ وأنا أختار الصلاة على الصوم " ، وكان بعضهم إذا صام ضعف عن قراءة القرآن ، فكان يكثر الفطر حتى يقدر على التلاوة ، وكل إنسان أعلم بحاله وما يُصلحه.
أخي .. إذا أحسست بنفسك تسبح منك نحو ساحل الفتور ، ولمست قلبك فأحسست بقساوته ، وطلبت عينك فوجدتها جافة من قلة الدمع ، وبحثت عن روحك فوجدتها سارحة مع غير الله ؛ فهرول مسرِعا إلى أسرع ما يشفيك وأعظم ما يُحدِث أثره فيك ، لتغرف منه وتشرب فترتوي وتهتدي بإذن باريك. .
شدِّد ثم أرخِ : البداية القوية تضمن النهاية السعيدة ، والعزمة الفتية تكفل دوام الصحة أعواما مديدة ، فلا بد من عزمة وقرار حاسم ووقفة محورية تعترف فيها ليس فقط أنك مريض ؛ بل وتعلن أنك في أمس الحاجة للدواء ، ويُرى ذلك في شدة انطلاقتك وحماستك ، وبدون هذه البداية تتعثَّر في النهاية بل قبل النهاية
أرخِ ثم شدِّد : والمشاهد أن كثيرا من المرضى يشاهدون من منَّ الله عليهم بالعافية والسمو في آفاق المتعة الإيمانية ، فيسعون في إدراكهم ، ويحاولون مطاولة النجم في علاه بقفزة واحدة ، وعندما يفشلون يرجعون خائبين تاركين المحاولة ويائسين من الشفاء ، ولو أنهم صعدوا السلَّم درجة درجة ، وبدؤوا بالانتهاء عن ما حرَّم الله ، ثم ساروا إلى الفرائض فأتموها ، وأتبعوا ذلك بالنوافل التي لا تشق عليهم ، لوجدوا في نهاية الطريق ما وجد هؤلاء ، ولكنهم قوم يستعجلون. أيها المتعجِّلون!! أنتم لا ترون سوى قمة الهرم ولكنكم لا تلمحون ما بُذِل فيه من عرق وجهد ، أنتم لا تبصرون إلا اللمحة الأخيرة واللقطة المبهجة والمشهد السعيد ، أما المسلسل الطويل من المجاهدة والصراع والمثابرة والكفاح فما خطر ببالكم قط ، لذا طمعتم في نيل العلا برقدة في الفراش والغرق في أماني الحالمين ، وهذا محال في سوق الآخرة.
نقطة الضعف المدمِّرة : لكل منا نقطة ضعفه التي يتسلل منها الشيطان إلى قلبه لينقل إليه العدوى ويبث النجوى ، وهي تختلف من مريض لآخر ، لكن الحاذق اليوم هو من عرف نقطة ضعفه ، وابتعد عن كل ما يوصل إليها ، فإن كانت نقطة ضعفه النساء سعى في شغل فراعه وتجنَّب أماكن الاختلاط والتبرج ، وإن كانت انهياره في الخلوة في مواجهة الذنوب ؛ حرص على الذوبان في مجتمع الصالحين وعدم التفرد ما استطاع إلى أن تقوى مناعته ، وإن كانت نقطة ضعفه شرهه في جمع المال زار من هو أفقر منه وعاد أصحاب الأمراض المستعصية حتى يعتبر ، وبهذا يغلق الباب أمام تفاقم المرض ، بل يشفى منه بمرور الوقت بإذن الله.
أغلى ذرة جهد : إذا حرمك الله المال فلا تبتئس ، فما هي إلا فرصة لمضاعفة أجرك وسرعة شفائك ، وإذا كنت غارقا في أعباء عملك الدنيوي ولو لم يكن عندك وقت لطول القيام ؛ فجاهدتَ نفسك في قيام ركعتين قبل الفجر انتزعتهما من وقت نومك الذي تحتاجه بشدة فما ذلك إلا علامة البطولة ، واسمع بشارة ابن القيِّم لك : " ليس العجب من صحيح فارغ واقف مع الخدمة ، إنما العجب من ضعيف سقيم تعتوره الأشغال وتختلف عليه الأحوال ؛ وقلبه واقف في الخدمة غير متخلِّف بما يقدر عليه " .
لذة التفرد الدافعة : عدم وجود الأعوان والتفرد بالإحسان رغم تفشي الداء ، والجهر بالعبادة بين الغثاء ، ومقاومة تيار الغفلة والشقاء ، والوقوف بقوة في وجه الأعصار ولو كنت وحدك ، والتمسك بالنوافل المهجورة والناس تجترئ على الكبائر ، كل ذلك يساوي عند الله اليوم الكثير ، ولذا ما كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مبالغا حين قال : " لخيرٌ أعمله اليوم أحب إلي من مثليه مع رسول الله ، لأنا كنا مع رسول الله يهمنا الآخرة ولا تهمنا الدنيا ، وإن اليوم مالت بنا الدنيا " . وهذا في زمان كان يزدحم فيه الصحابة والتابعون ، فكيف بزماننا هذا؟! فليبتسم قلبك ، ولتضحك روحك وأنت تسمع هذه بشارة : « إنَّ من ورائكم أيام الصَّبر ؛ الصبر فيه مثل قبْضٍ على الجمر ، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله ». قيل : يا رسول الله .. أجر خمسين منهم؟! قال : « أجر خمسين منكم » .
مواسم الاستشفاء : ومواسم الاستشفاء هي الأزمنة التي طرح الله فيها البركة وألقى في ثناياها الرحمة ؛ فالشفاء فيها أسهل ، والهداية أقرب ، والمغفرة أرجى ، وطلب الأمن من صاحب الأمان أوقع ، والرحمات تنهمر بحيث لو كُشِف الحجاب عن الأبصار لعاينت تنزل الرحمات كالأمطار الغزار ، فكم لله فيها عين حُرِّمت على النار ، وكم وُضِع فيها من ثقل الأوزار ، وكم أُعطي سائلٌ سؤله ، ومدركٌ أمله ، لذا تغتاظ الشياطين ، وتُسرُّ الملائكة ، وتنخذل النفس الأمارة بالسوء أمام زحف قوات التقوى ، ويجيب داعي الخير الكثيرَ من الخلق ومن أول كلمة ، فاغتنم مواسم الأرباح هذه فقد دنا رحيلها ، وادخل من أبواب التوبة قبل موعد إغلاقها ، وبادر شمس المنية قد لاح إشراقها ، وبالله!! لا تترك هذه الفرصة فتندم؟!
دواء الملول : وذلك أن النفس بطبيعتها ملولة لا تستطيع الإقامة على دواء واحد دون تغير ، لذا كان من رحمة الله بنا أن يسَّر لنا ألوانا من العبادات تتقلَّب بينها النفس المؤمنة ، فلا يفتر عزمها ، ولا يكلُّ سعيها ، كما أدرك ذلك ابن عطاء فأرشدنا إليه في قوله : " لما علم الحق منك وجود الملل ؛ لوَّن لك الطاعات " .
ارتدِ العدسة المصغِّرة : أخي .. سحائب شفائك قد أبرقت ، فليكن وابلها سالما من صواعق العجب ، وقد جُبِلت النفس على إحسان الظن بحالها ، وتزكية عملها ، والخنفساء تسمي بنتها القمرا ، ولا يتم شفاء أو يؤثِّر دواء إلا باستصغار عملك الصالح ورؤيته صغيرا في جنب الله ، وقد قيل : الإحساس بالتقصير أولى درجات الكمال ، بل يقرِّر ابن عطاء أن أشفى جرعة دواء وأقربها إلى القبول وإحداث الأثر هي التي مُزِجت بسطور هذه الوصية. قال رحمه الله : " لا عمل أرجى للقبول من عمل يغيب عنك شهوده ويُحتَقَر عندك وجوده " .