أوجاعنا المخجلة...
في المدرسة قصة صغيرين، دخلا معا إلى الابتدائية وقبل أن يعرفا معاني الصداقة والعلاقات، كان شيئا ما ينمو في نفسيهما كل واحد عن صاحبه.
وعند نضجت معاني الصداقة في المرحلة المتوسطة كان الوقت قد حان ليعرفا أنهما صديقان، لم يكونا متماثلين، لكن شعر كل واحد منهما أنه يحب الآخر ويميل إليه، عاشا صداقة ممتعة يلهوان ويلعبان ويضحكان ويتشاجران، ومع الأيام كان صداقتهما تذهب بعيدا في أعماقهما، وتنمو أغصانها في هواء الحياة الغضة، كانا ساذجين في سنوات الصداقة العشر الأولى.
لم تظهر لهما تحديات المستقبل ولا تناقضات الإنسان، ولا أشواك نفوسهما الجارحة، لم يكونا يريان أنفسهما إلا أنهما صديقان فحسب.
يقيم كل واحد منهما الآخر بحسب أفعاله في اللحظة واليوم، لا يبحث أبعد من هذا، لا يفسر ولا يحلل ولا تختزن ذاكرته الكثير سوى هذا الصداقة.
مثلما ينشأ أخوان في بيت واحد.
....وفي الثانوية وفي زحام العواطف الجياشة، تفجرت معاني القرب بينهما، وأحبا بعضهما أكثر كما يتحاب الإخوة، تشاركا أدق تفاصيل الحياة؛ من الآلام والآمال والفرح والترح والسهر والمرض والشقاوة، حتى لم يعد اليوم الدراسي كافيا في أشباع صداقتهما.
....وفي لحظة فارقة، بينما كانا جالسين في جلسة تبدو هادئة عادية ليس فيها ما يثير، يتابعان أحاديثهما اليومية؛
صعق (عبدالإله) صاحبه وبدون إرهاص مسبق، برغبته في إنهاء صداقتهما، وإسدال الستار وإلى الإبد عن الصداقة بينهما.
هكذا بصورة حاسمة ومفاجئة وعازمة على دفن اثني عشر عاما من الذكريات في لحظة واحدة.
في كلمات مختصرة وجادة، وبلغة قد صيغت بعناية كما تصاغ البيانات السياسية، وبنفس عازمة على إغلاق أي فرصة لطرح الأسئلة، دحرج عبدالإله كلماته على صديقه الذي بهت فلم ينبس بكلمة، وذهب وتركه غارقا في موجة من الذهول والصدمة
لم يحدث منذ طفولتهما أن تهاجرا أبدا، بل ربما لم يفكرا في حدوث هذا الأمر يوما.
لكنهم يواجهان سكتة مفاجئة للماضي والمستقبل في لحظة واحدة،
هكذا مثلما تحدث الزلازل وتتفجر البراكين، بغير إنذار مسبق
لقد كانت خبرتهما محدودة جدا، فلم يكن في وسعهما تطويق الحريق الذي شب في بستان صداقتهما وأتى على كل شيء في لحظة واحدة حتى كان كالصريم. صداقة لم تكن صرحا من خيال كما قال ناجي حينما هوى
بل كان صرحا وجوديا في قلبيهما الغضين.
افترقا، لم يكن هجرا، ولا عداوة، لكن وأدا لقصة مشروع صداقة جميل.
أربعون عاما مرت.
ولا زالت الأسئلة تريد استجوابهما عما حدث.
مثلما تفرج الدول عن تاريخها بعد عقود
يحاول مراقب قريب تقليب أوراق السنين، وإعادة البحث عن أسباب تلك اللحظة الصعبة التي قوضت كل شيء.....
كان عبدالإله متفوقا في دراسته وأفضل من صديقه، في مجتمع المدرسة وقبل أربعين عاما كان التفوق معيار التمييز بين الطلاب، في جو المدرسة القائم على التراتبية والطبقية الطلابية حسب درجاتهم ومنذ وقت مبكر تكون في نفس عبدالإله شعور مشوه بالاستعلاء وأنه الأفضل، ورغم أن صاحبه من أسرة أغنى وأرفع شأنا من أسرته لكنه لم يعترف بهذا لصديقه وكان يمقت ذلك، بل ويسعى لمحوه وتغييره، وقال له يوما لقد انتهى عصر المشيخة، فرد صديقه بأن ذلك لم ينته، شعر عبدالإله من جواب زياد أنه يرى نفسه الأفضل وأن هذا جواب فوقية مرفوض من صديقه، وأضمر في نفسه حتمية التكافؤ كأنما يفكر بأن بنيان الصداقة لا يشيد إلا في أرض شيوعية (لم يكن لديه أي فكرة عن الشيوعية حينئذ) تنمحي فيه مميزات الفرد لفكرة الصداقة،
ولكن نسى في سكرة الرغبة الطامحة في صداقة متكافئة حسب معاييره، أنه يخفي نفسا مختالة بتفوقها أيضا، لم يبد زياد أي ملاحظة حول تفوق صديقه الدراسي، ولم يكن ممتعضا من ذلك، بل على العكس كان يفرح ويشعر أنه شريك في إنجازه، غلطته الكبرى من وجهة نظر صاحبه التي فجرت غضبه هي رفضه التخلي عن امتيازه القبلي، في أجواء هذا الرفض تشوهت مرآة النظر عند عبدالإله لم يعد ينظر ببراءة لأي تصرف من صديقه، خاصة ذلك التصرف الذي يشي ولو من بعيد باعتزاز بدمائه المشيخية، حتى إن عبدالإله يوما دخل على صديقه في مكان عام، ولأمر ما، ولشيء لا يمكن ربما الآن تفسيره أو البحث عن ملابساته، والأقرب أنه ليس شيئا مهما بل هو عادة الرفاق يومئذ لم يقم زياد للسلام على صديقه عند قدومه، فأسرها عبدالإله في نفسه ولكنه ابداها في موجة تفجر عاطفي عارم،
ربما يمكن من خلال تقليب أرواق التاريخ توجيه بعض اللوم لزياد لأنه لم يكن منتبها لحساسية صديقه تجاه سلوكه المخملي الذي تشربه من انحداره من أسرة متطبعة بالزهو والعيش في خيالات العرق المتميز، وكان يمكن أن يخفف مخاوفه بسلوك أكثر تواضعا، وهو الحريص على استمرار الصداقة كما بدا بعد سنينلكن مطالب عبدالإله بتخلي زياد عن مكاسب وهبها الله له ولأسرته، كان مطلبا تعسفيا بائسا، لم يكن يدرك حينها الشاب الصغير أن مطالبه تعاند التاريخ والسنن والواقع والحياة، وأنه كما تم تقبل رفيقه تقوقه الدراسي كان يجب أن يحتفي بنعمة صاحبه أو يتقبلها في الأقل ليستمر نهر الصداقة في الجريان.
كانت خبرته غضة لم تمكنه من التفريق بين أن يفتخر ويستعلي الإنسان بقدراته وإمكاناته وبين أن يقبلها ويسعد بها فحسب.
كان يفسر قبول رفيقه بالتميز المشيخي في ذاته استعلاء.
قصة الطفلين ثم الشابين، قصة متكررة في أزمة الإنسان في قانون التفاوت بين الخلق
قصة أوجاعنا المخجلة التي تتوارى حول قيم مصطنعة.
نحن ممتعضون من الاغنياء بحجة النزاهة ونلمزهم بالتكبر والمكاسب المشبوهة.
ممتعضون من ذوي الجاه والنسب بحجة الحفاظ على قيم التواضع
ممتعضون من أشكال الناس أو ألوانهم الجميلة...
كأنما نريد أن يخرج الآخرون من جلودهم النضرة ويبرقعوا وجوههم الوسيمة أو يتبرؤوا من أنسابهم الرفيعة أو يحرقوا ثرواتهم.
حين قدمت أرواحنا إلى الحياة كانت أرواحنا متساوية والروح من أمر ربي لكنها نفخت في أجساد متفاوته في جيناتها في مقاديرها في أعمالها وأشكالها وصورها وتاريخها وماضيها ومستقبلها
لم تكن خبط عشواء، بل كل شيء جعله الله بقدر، حين انحدرت روحك في جسدها كان كل شيء قد انتهى
شكلك وأسرتك ولونك وبلدك ووطنك، لست مذنبا في شيء ولا الآخرون
ليس الذين ولدوا بأشكال وسيمة وجميلة وألوان لافتة وذكاءات مرتفعة وأسر عريقة مذنبين ولا محظوظين ولا العكس
ليس من حقنا أن نلوم من اختصهم الله بشيء في أشكالهم أو ألوانهم أو ثرواتهم أو أنسابهم
كما ليس من الإيمان أن نضجر ونعترض لأننا أقل في أيء شيء من هذا
نحن ملومون وهم على شيء واحد فقط، عن أعمالنا، عن ردود أفعالنا في قاعات اختبارات الحياة
لسنا مسؤولين عن أرواق الأسئلة التي طارت لنا، لكننا مسؤولون عما كتبته أيدينا في تلك الورقات
والحياة ساعة تشبه ساعة وجودك في قاعة الاختبار
وشكلك ولونك وأسرتك وذكاؤك ومالك وقدراتك ومواهبك ومقدار الألم والفرح في حياتك مقعد له رقم جلوس،
نعم تجلس فيه بغير اختيارك لكن في وسعك أن تبلي جيدا في مقعدك
في وسعك أن تكون رائعا وناجحا ومفلحا وتأتي أولا في الآخرة رغم كل الصفات المحدودة في مقعدك الدنيوي بحسب الإمكانات التي كانت لك ليس أكثر
في الآخرة تتغير كل الظروف التي كانت هنا
وتعود الأرواح من جديد إلى الشيء الذي صنعته بأعمالها هنا في ظروفها في قدراتها الواسعة أو المحدودة
حتى الألوان ليست هناك شيئا جينيا ترثه من أبيك وأمك
هناك جينات من عملك، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه
جمالك هناك ترسمه أعمالك هنا،
تولد هناك لك أب واحد وقدر واحد وكتابة واحدة هو عملك، حيث تصبح كل الأحداث وفق معيار توفيق الله لك بالعمل الصالح
تصبح ثروتك ومكانك وراحتك وسعادتك ومنصبك هي المعنى الحقيقي لما فعلت هنا وليس لما ولدت به.
العدالة المطلقة لا تسمح بذرة خلل في الميزان
المعاقون والأقوياء والباذخون الأثرياء والمعدمون المدقعون والدميمون ذو الصور البشعة وأهل الجمال الذي يخطف البصر.
محكومون بعدالة الرب الكاملة.
الأرواح متساوية حتما في فرص الاختبار الإلهي لكن ليس بالضرورة في صورته وهيئته.
الجواب الرباني عن أسئلتنا الدائمة الثوران
الابتلاء وفرصة الحياة الواحدة
وما أجمل قول الله عن هؤلاء
في قوله تعالى
(للسائل والمحروم)
المحروم من المال المحروم من الجمال المحروم من النسب المحروم من الصحة المحروم من العافية المحروم من الذكاء
سماهم الله محرومين بكل ما تلقي هذه الكلمة من ظلال الرحمة الربانية والعلم الإلهي بالوضعية البائسة.
الناس يشفقون على طفل جائع لأنه محروم فحسب.
لكن الله يرحم كل محروم من أي شيء من مال أو قوة أو جاه أو جمال.
المحرومون جاءوا في المقعد الأرفق بهم في العلم الرباني. والموسرون في المقعد الأرفق بهم. ولكن تبقى مسؤوليتهم عن أنفسهم.
لو جاء رجل فقال لابنيه
فقال لأحدهما هذه 100 ريال
وقال للآخر هذه 1000 ريال
فاعملوا فيها
والوالد يعرف قدرات كل واحد منهما ويعرف المدى الذي يمكن أن يصله كل واحد منهما حسب ظروفه.
ويقيمم بحسب ذلك.
نحن نضع اختبارات متساوية لطلابنا لأننا لا نعرف عنهم أي شيء سوى أنهم في الصف الفلاني الأول الثانوي أو الثاني مثلا.
فنضطر أن نوحد اختبارهم.
لكن الله الذي خلق عباده يعلم كل شيء عنهم ومساحة الابتلاء فيهم.
فمهما تنوعت اختباراتهم
وتفاوتوا في حظوظهم الظاهرة فسيحظون بالعدالة الكاملة..
كل الوجوه الوسيمة والدميمة
كل النفوس النسيبة والوضيعة
كل الألوان البيضاء والسوداء
مختارات