بناتنا.. ورائدات العمل الخيري
يعج تاريخنا الإسلامي المجيد بأعداد هائلة من النماذج الرائعة التي ترجمت معاني الإسلام وجعلته واقعا يتخذ منه الخلف من السلف قدوة وأسوة. وكما كانت هذه النماذج الفذة متكاثرة في الرجال، فكذلك كانت في النساء أيضا حتى لا يعدمن النسوة قدوة. وقد اخترت من بطون التاريخ ـ من بعد الصحابيات والتابعيات ـ نموذجين لامرأتين جليلتين حفرت كل واحدة منهما اسمها في سجل التاريخ بأحرف من نور؛ فخلد التاريخ ذكرهن ليكن لمن بعدهن نورا ونبراسا يستضئن به، ويترسمن خطاه.
الأولى: فاطمة الفهرية.. مجددة مسجد القرويين
كانت فاطمة من سكان القيروان التي اتخذها عقبة بن نافع الفهري قاعدة له، وقد هاجرت ضمن المهاجرين إلى فاس مع أبيها محمد بن عبد الله الفهري، وكان ذا مال عريض وثروة طائلة، ولم يكن له من الأولاد سوى بنتين هما: فاطمة ومريم، أحسن تربيتهما واعتنى بهما حتى كبرتا، فلما مات ورثته ابنتاه، ورأتا ضيق المسجد بالمصلين فأحببتا أن تخلدا ذكرهما وذكر والديهما بخير.
عمدت فاطمة إلى مسجد القرويين فأعادت بناءه مما ورثته من أبيها سنة 245هـ، وضاعفت حجمه بشراء الحقل المحيط به، وضمته إلى أرض المسجد، وبذلت مالا جما برغبة صادقة حتى يكتمل بناؤه في صورة بهية وحلية رصينة.. وقد جاء في قصة بنائها المسجد ما يلي:
بدأت فاطمة بنت محمد الفهري في اتخاذ الخطوات الأولي في البناء، واشترت أرضاً بيضاء بالقرب من منزلها بالقرويين، ودفعت لصاحبها بسخاء حتي إذا شرعت في البناء عقدت العزم علي ألا تأخذ تراباً أو مواد بناء من غير الأرض التي اشترتها بحر مالها، وطلبت من عمال البناء أن يحفروا حتي أعماق الأرض المزمع إقامة البناء عليها، فأخذوا يستخرجون من أعماقها الرمل الأصفر الجديد والأحجار والجص ليستخدموه في البناء، وهي بذلك تهدف إلي عدم وجود أي شبهة تشوب مشروع تشييد البناء في المسجد، ومع أول أيام البناء أصرت علي بدء الصوم، ونذرت ألا تفطر يوماً حتي ينتهي العمل فيه.
بدأ الحفر أولا في صحن المسجد لإنشاء بئر من أجل شرب البنائين ولاستخدام الماء أيضاً في أعمال البناء، ثم عمدت بعد ذلك في حفر بناء أساس وجدران المسجد، وقامت بنفسها بالإشراف علي أعمال الأساسات والبناء فجاء المسجد فسيح الأرجاء محكم البناء، وكأن فاطمة عالمة بأمور البناء وأصول التشييد لما اتصفت به من مهارة وحذق، فبدا واضحاً شكل المسجد في أتم رونق وأزهي صورة وأجمل حال وبهاء، حتي إذا انتهي العمل وتم البناء كان أول رمضان سنة 245 من الهجرة؛ فصلت فاطمة صلاة شكر لربها علي فضله وامتنانها لكريم رزقه وفيض عطائه الذي وفقها لبناء هذا الصرح الذي عرف بمسجد القرويين.
وكانت نية أم البنين صادقة لوجه الله في بناء مسجد أسس علي الصدق والتقوي والضمير الحي، فأضحي مسجداً للورع والصلاح، وأصبح جامع القرويين الشهير أول معهد ديني وأكبر كلية عربية في بلاد المغرب الأقصي.. ويعد بعض المؤرخين هذا الجامع أول جامعة عربية إسلامية في البلاد المراكشية، وبذلك تصبح السيدة فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني المعروفة بأم البنين الفهرية هي مؤسسة أول جامعة عربية إسلامية في هذه البلاد، وماتت السيدة فاطمة نحو عام 265 هـ/1180م.
مريم الفهرية:
ومثلما نحت فاطمة الفهرية هذا العمل سبيلاً نجد أختها مريم ـ أم القاسم ـ تمشي علي نفس الدرب فأنشأت مسجداً عرف باسم جامع الأندلس.
ولا زال جامع القرويين إلي جوار جامع الأندلس يؤديان الدور المنوط بهما في نشر الاسلام والعلوم.
الثانية: ست الشام سيدة الخواتين
هي ابنة الأمير نجم الدين أيوب، وأخت السلطان العظيم صلاح الدين الأيوبي محرر الأقصى.. اكتسبت فاطمة خاتون (الملقبة بست الشام) كل الصفات الحميدة والخصال الطيبة من أبيها وأخيها، فكانت سيدة الملكات أو سيدة الخواتين في ذلك العصر (خاتون: كلمة كردية تعني المرأة العاقلة الرزان).
قال عنها ابن كثير في تاريخه: " الخاتون الجليلة، ست الشام، بنت نجم الدين أيوب رحمها الله، أخت الملوك، وعمة أولادهم، وأم الملوك، كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكا ". وقال: " واقفة المدرستين الشامية البرانية والشامية الجوانية ".
كانت تقطن في بيت كبير في دمشق مقابل البيمارستان النوري ـ الذي جعلته مقصداً وملاذاً للخائفين من بطش الإفرنج رجالاً ونساء ـ وكانت تقدم الصدقات لكل محتاج، وتغدق في عطائها عليهم.. كانت سيدة الخواتين، عاقلة، كثيرة البر والإحسان والصدقات، وكان يعمل في دارها من الأشربة والمعاجين والعقاقير في كل سنة بألوف الدنانير) مما يجعلنا نقول أنها كانت جديرة بلقب ست الشام.
كانت ست الشام الجندي المجهول الذي قام على إعمار المدارس والاهتمام بالأدب والأدباء، كما بذلت جهوداً كبيرة لتحفيظ القرآن الكريم، ولعل أفضل ما تركته بناء مدرستين كبيرتين هما: المدرسة الشامية الجوانية و المدرسة الشامية البرانية، وجلبت لهما أحسن المدرسين وجعلتها للفقهاء والمتفقهين من أصحاب الإمام الشافعي؛ فكانت بمثابة جامعة من جامعات ذلك العصر.
وفي يوم الجمعة الموافق للسادس عشر من ذي القعدة سنة 616 هجرية توفيت ست الشام بدمشق بدارها المقابلة للبيمارستان النوري بجنازة رهيبة تحدثت عنها الركبان، فقد سار الناس وراء نعشها بالآلاف وهم يرددون الأدعية لها، حيث دفنت بجانب ولدها حسام الدين في المدرسة الحسامية. ويقال بأن جنازتها كانت فريدة إذ لم تشيع امرأة قبلها بمثل ما شُيعت به خاتون ست الشام.
قدوة شريفة
إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد لأمة الرقي والرفعة، وأذن لها بالسعادة الغامرة، أيقظ في أفرادها وجدانا شريفا، وشعورا عاليا يدفعهم للقيام بصالح الأعمال وأشرفها وجليلها وأرقاها، من أجل سعادة الدارين.. فهل نجد من يحيي ذكرى أولئك الماجدات بالسير على طريقهن؟.
مختارات