" الفَصَــاحة "
" الفَصَــاحة "
الفَصَاحة في الكتاب والسنة:
#### أولًا: في القرآن الكريم:
- قال الله تبارك وتعالى: " الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ " [الرَّحمن: 1-4].
قال الزَّمخشري: (ثمَّ ذكر ما تميَّز به من سائر الحيوان من الـبَيَان، وهو المنطق الفَصِيح المعِرب عمَّا في الضمير) [الكشاف،للزمخشرى].
وقال ابن عطية: (البَيان النُّطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول، قاله ابن زيد والجمهور، وذلك هو الذي فضَّل الإنسان من سائر الحيوان) [المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز،لابن عطية].
وقال السمرقندي: (عَلَّمَهُ الـبَيَان يعني: الكلام، ويقال: يعني: الفَصَاحة، ويقال: الفهم) [تفسير بحر العلوم،للسمرقندى].
#### ثانيًا: في السُّنَّة النَّبَويَّة:
- عن عبد الله بن عمر، قال: قدم رجلان من المشْرق فخطبا فعجب النَّاس لبَيَانِهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من الـبَيَان لسِحْرًا، أو: إنَّ بعْضَ الـبَيَان لسِحْرٌ) [رواه البخارى].
والمراد بالبيان (اجتماع الفَصَاحة والبَلَاغة وذكاء القلب مع اللِّسان، وإنَّما شُبِّه بالسِّحر لحِدَّة عمله في سامعه، وسرعة قبول القلب له، يُضْرب في استحسان المنطق، وإيراد الحجَّة البالغة) [عون المعبود،للعظيم آبادى].
ونقل أبو هلال العسكري عن عسل بن ذكوان، أنَّه قال: (قال أبو عبد الرَّحمن: أَذَمَّ الـبَيَان أمْ مَدَحه؟ فما أبان أحد بشيء، فقال: ذمَّه؛ لأن السِّحر تمويه، فقال: إنَّ من الـبَيَان ما يُمَوِّه الباطل، حتى يُشَبِّهه بالحقِّ، وقال غيره: بل مَدَحه؛ لأنَّ الـبَيَان من الفهم والذَّكاء.
قال أبو هلال: الصَّحيح أنَّه مَدَحه، وتسميته إياه سِحْرًا، إنَّما هو على جهة التَّعجب منه، لأنَّه لما ذمَّ عمرو الزبرقان، ومدحه في حالة واحدة، وصدق في مدحه وذمِّه فيما ذَكَر، عجب النَّبي صلى الله عليه وسلم كما يعجب من السِّحر، فسمَّاه سحرًا من هذا الوجه) [جمهرة الأمثال،لأبى هلال العسكرى].
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت جوامع الكلم) [رواه مسلم].
#### فوائد الفَصَاحة المحمودة:
1- الفصاحة من وسائل تبليغ الدين:
الفصاحة وسيلة مهمة من وسائل تبليغ دين الله تبارك وتعالى، لذا طلب موسى عليه السَّلام من ربِّه أن يمدَّه بأخيه هارون عليه السَّلام وعلَّل ذلك بكونه أفصح منه لسانًا. فصاحب اللِّسان الفَصِيح يقدر على إبلاغ حجَّته للنَّاس، وإيصال الحقِّ لهم.
2- القدرة على الدِّفاع عن الحقوق:
الفَصِيح أقدر وأجدر في الدِّفاع عن حقِّه، وانتزاعه من المعتدين، وذلك إذا كان الميدان ميدان حِجَاج وكلام، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذمَّ من كانت بلاغته وبيانه سببًا في أن يقضى له بما ليس له بحق، فلا شك أنَّ هذه الفصاحة والبلاغة إذا أدت إلى الوصول للحق تكون حينئذ محمودة، وإلا كانت مذمومة.
قال المناوي في شرح حديث: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) [رواه البخارى ومسلم] قال: (أَلْحَن - بفتح الحاء -: الفَطانَة، أي: أبْلغ وأفْصح، وأعلم في تقرير مقصوده، وأفْطن ببيان دليله، وأقدر على البَرْهنة على دفع دعوى خصمه، بحيث يُظنُّ أنَّ الحقَّ معه) [فيض القدير].
3- الفصاحة وسيلة لمعرفة إعجاز القرآن:
يقول أبو هلال العسكري: (أنَّ أحقَّ العلوم بالتعلُّم، وأولاها بالتحفُّظ- بعد المعرفة بالله جلَّ ثناؤه- علم البَلَاغة، ومعرفة الفَصَاحة، الذي به يُعرف إعجاز كتاب الله تعالى، النَّاطق بالحقِّ، الهادي إلى سبيل الرَّشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحَّة النُّبوَّة، التي رفعت أعلام الحقِّ، وأقامت منار الدِّين، وأزالت شبه الكفر ببراهينها، وهتكت حُجُب الشكِّ بيقينها، وقد علمنا أنَّ الإنسان إذا أغفل علم البَلَاغة، وأخلَّ بمعرفة الفَصَاحة، لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصَّه الله به من حُسْن التأليف، وبراعة التَّركيب، وما شَحَنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللَّطيف؛ وضمَّنَه من الحلاوة، وجلَّله من رَوْنَق الطَّلاوة، مع سهولة كَلِمِه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها، وتحيَّرت عقولهم فيها... [الصناعتين:الكتابة والشعر].
#### أقسام الفَصَاحة:
الفَصَاحة قسمان:
1- (راجعٌ على المعنى، وهو خُلُوص الكلام عن التَّعقيد... وهو أن يُعَثِّر صاحبه فكرَك في مُتَصَرَّفه، ويَشِيك طريقك على المعنى، ويُوعِر مذهبك نحوه، حتى يُقَسِّم فكرك، ويشعِّب ظنَّك على أن لا تدري من أين تتوصَّل، وبأيِّ طريق معناه يتحصَّل.
2- وراجعٌ على اللَّفظ، وهو أن تكون الكلمة عربيَّة أصليَّة، وعلامة ذلك:
أن تكون على أَلْسِنة الفُصَحاء من العرب -الموثوق بعربيَّتهم- أَدْور، واستعمالهم لها أكثر، لا ممَّا أحدثها المولدون، ولا ممَّا أخطأت فيه العامَّة، وأن تكون أَجْرَى على قوانين اللُّغة، وأن تكون سليمة عن التَّنافر) [مفتاح العلوم للسكاكى].
#### الوسائل المعينة على اكتساب الفَصَاحة:
#### 1- الإكثار من قراءة القرآن وحفظه، فهو أفصح كلام وأكمله، ومِنْ أكثر من قراءة القرآن انطلق لسانه فَصَاحةً، واكتسى كلامه عذوبة، وتزيَّنت عباراته بالبَلَاغة.
2- حِفْظ أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم والإكثار من قراءتها، فهو أفصح النَّاطقين بالضَّاد قاطبة.
3- تعلُّم النَّحو وقواعد العربيَّة، والبعد عن اللَّحن في الكلام.
4- تعلُّم علم البَلَاغة وقواعده من معان وبيان وبَدِيع، ومحاولة استخدامه أثناء الكتابة أو الكلام.
5- مُجَالسة الفُصَحَاء ومُعَاشرتهم، وهذا من أفضل طرق اكتساب الفَصاحة والبَيان، فإنَّ الجليس يأخذ من أخلاق وطِبَاع جليسه حتى في كلامه.
#### نماذج من فصاحة النَّبي صلى الله عليه وسلم:
قال السيوطي: (أفصحُ الخَلْق على الإطلاق سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب ربِّ العالمين جلَّ وعلا).
و(قال الخطابي:... ومن فَصَاحَته أنَّه تكلَّم بألفاظ اقتضبها، لم تُسْمع من العرب قبله، ولم توجد في متقَدِّمِ كلامها، كقوله: مات حَتْفَ أنفه، وحَمِي الوَطِيس، ولا يُلدغ المؤمن من جُحر مرتين) [المزهر فى علوم اللغة وأنواعها،للسيوطى].
#### نماذج من فصاحة الصَّحابة رضي الله عنهم:
فَصَاحة أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه:
عن هشام بن عروة، قال عبيد الله، أظنُّه عن أبيه، قال: (لما وَلِيَ أبو بكر، خطب النَّاس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ قال: أمَّا بعد، أيُّها النَّاس، قد وُلِّيت أمركم، ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن، وسنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم السُّنن فعَلَّمنا فعَلِمنا،اعلموا أنَّ أَكْيَس الكَيْس: التَّقوى، وأنَّ أَحْمَق الحُمْق: الفجور، وأنَّ أقواكم عندي الضَّعيف، حتى آخذ له بحقِّه، وأنَّ أضعفكم عندي القويُّ، حتى آخذ منه الحقَّ. أيُّها النَّاس، إنَّما أنا متَّبع ولست بمبتدع، فإنْ أحسنت فأعينوني، وإنْ زِغْتُ فقوِّموني) [رواه ابن سعد فى الطبقات الكبرى].
فَصَاحة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه:
خطب عمر رضي الله عنه فقال بعد ما حمد الله، وأثنى عليه، وصلَّى على النَّبي صلى الله عليه وسلم: (أيها النَّاس، إنَّ بعض الطَّمع فَقْر، وإنَّ بعض اليأس غِنى، وإنَّكم تجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وأنتم مؤجَّلون في دار غرور، كنتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تُؤْخَذون بالوحي، فمن أَسَرَّ شيئًا، أُخِذ بسريرته، ومن أعلن شيئًا، أُخِذ بعلانيته، فأَظْهِروا لنا أَحْسَن أخلاقكم، والله أعلم بالسَّرائر، فإنَّه مَنْ أَظْهَر شيئًا، وزعم أنَّ سريرته حسنة، لم نصدِّقه، ومن أَظْهَر لنا علانية حسنة، ظننَّا به حسنًا، واعلموا أنَّ بعض الشُّح شُعبة من النِّفاق، فأنفقوا خيرًا لأنفسكم، ومن يُوق شحَّ نفسه، فأولئك هم المفلحون. أيُّها النَّاس، أطيبوا مثواكم، وأصلحوا أموركم، واتَّقوا الله ربَّكم، ولا تلبسوا نساءكم القَبَاطي، فإنَّه إن لم يَشِفَّ فإنَّه يَصِف. أيُّها النَّاس، إنِّي لوددت أن أنجو كفافًا، لا لي ولا عليَّ، وإنِّي لأرجو إنْ عُمِّرت فيكم يسيرًا أو كثيرًا، أنْ أعمل بالحقِّ فيكم -إن شاء الله-، وألَّا يبقى أحد من المسلمين - وإن كان في بيته - إلَّا أتاه حقُّه ونصيبه من مال الله، ولا يعمل إليه نفسه، ولم ينصب إليه يومًا، وأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله، ولَقَليل في رِفْق، خيرٌ من كثير في عُنْف، والقتل حَتْف من الحُتُوف، يصيب البرَّ والفاجر، والشَّهيد من احتسب نفسه، وإذا أراد أحدكم بعيرًا فليعمد إلى الطَّويل العظيم فليضربه بعصاه، فإنْ وجده حديد الفؤاد فليشتره) [ذكر بعضه الوراق فى أنساب الأشراف].
#### أقوالٌ وأمثالٌ وحِكَمٌ في الفَصَاحة:
- قال العاص بن عدي: (الشَّجَاعَة قلب رَكِين، والفَصَاحة لسان رَزِين) [الصناعتين:الكتابة والشعر،لأبى هلال العسكرى].
- وقال يحيى بن خالد: (ما رأيت رجلًا قطُّ إلا هبته حتى يتكلَّم، فإنْ كان فَصِيحًا، عَظُم في صدري، وإنْ قصَّر سقط من عيني) [الصناعتين:الكتابة والشعر،لأبى هلال العسكرى].
- وقيل: (من عُرف بفَصَاحة اللِّسان، لحظته العيون بالوَقَار) [المستطرف،للأبشيهى].
- وقال محمَّد بن سيرين: (ما رأيت على رجل أجمل من فَصَاحة) [العقد الفريد،لابن عبد ربه].
مختارات