" حقيقة القلب "
" حقيقة القلب "
حقيقة القلب أنه كالجسد في التأثر سلبا وإيجابا، فهو يصح ويمرض ويجوع ويشبع، ويسعد ويشقى، ويُكسى ويعرى، وكل ذلك بحسب نوع المؤثرات التي تحيط به.
فالقلب يمرض، ومرضه الكفر والشك، والريبة والشرك، والحقد والحسد، والغيبة والكذب، والعجب والكبر وغيرها مما يرتبط بهذه المعاني، ويشترك معها في مطلق الشر.
ودواؤه من هذه الأمراض يحصل بالتوبة منها، وترويض القلب على اجتثاثها واشتغاله بما ينفعه.
قال إبراهيم الأحوص: دواء القلب خمسة أشياء:
1- قراءة القرآن بتدبر.
2- خلاء البطن.
3- قيام الليل.
4- التضرع عند السحر.
5- مجالسة الصالحين.
وسئل إبراهيم بن الحسن عن سلامة القلب فقال: العزلة والصمت، وترك استماع خوض الناس، ولا يعقد القلب على ذنب ولا على حقد، ويهب لمن ظلمه حقه.
ويمرض القلب أيضا بحب الدنيا والإقبال عليها، فإذا مرض بهذا الداء استعصى على صاحبه الشفاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال قلب الكبير شابًا في اثنتين حب الدنيا وطول الأمل» (صحيح البخاري).
وعن إسحاق بن محمد قال: قالت: رابعة: " شغلوا قلوبهم بحب الدنيا عن الله عز وجل، ولو تركوها لجالت في الملكوت ثم رجعت إليهم بطرائف الفوائد " وعن ابن سماك أنه سمع امرأة كانت تسكن البادية تقول: لو تطالعت قلوب المؤمنين بفكرها إلى ما ادخر لها في حجب الغيب من خير الأجر، لم يصفُ لهم في الدنيا عيش، ولم تقر لهم في الدنيا عين.
وعن الحسين الحامدي قال: سمعت حارث بن أسد يقول: بلية العبد تعطيل القلب من فكرة الآخرة، حينئذ تحدث الغفلة في القلب.
وقال أبو الخير التيناني: حرام على قلب مأسور بحب الدنيا أن يسيح في روح الغيب.
وكما أن القلب يمرض بعد الصحة فإنه يجوع كما تجوع الأبدان، وجوعه ليس من نقص الطعام والشراب، وإنما بالغفلة عن ذكر الله ـ جل وعلا ـ والأنس بغيره، وإشغاله بما لا يذهب خلته وحاجته، بل يزيد منها ويؤجج نارها.
فإن الشواغل التي تحيط بالقلب تجعله أسيرا مدمنًا على الاشتغال بها، ويجد منها فراغًا وفاقة، وهي سبب جوعه ومرضه، ثم هو لا يقوى على الحيدة عن شواغله التي سكنت غلافه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن، ولا آخر اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها » (رواه البخاري ومسلم).
وإنما اشترط ذاك النبي عليه السلام هذه الشروط حتى لا يكون بين أفراد جيشه من شغل قلبه بغير الله، والجهاد في سبيل الله، والإقبال على الدار الآخرة فإن الشواغل تكون سببا في طول الأمل وكراهية الموت فهي مجبنة للنفس مثبطة للعزيمة والصبر.
وعن ثابت قال: قيل لعيسى عليه السلام: " لو اتخذت حمارا تركبه لحاجتك؟ قال: أنا أكرم على الله من أن يجعل لي شيئا يشغلني به ! ".
وعن الحارث بن نبهان قال: قدمت من مكة، فأهديت إلى مالك بن دينار ركوة (إناء صغير، والجمع: ركاء)، فكانت عنده، فجئت يوما فجلست في مجلسه، فلما قضاه قال لي: يا حارث ! تعال خذ تلك الركوة فقد شغلت علي قلبي ! فقلت: يا أبا يحيى إنما اشتريتها لك تتوضأ فيها وتشرب فقال يا حارث ! إني إذا دخلت المسجد جاءني الشيطان فقال لي: يا مالك: إن الركوة قد سرقت، فقد شغلت عليَّ قلبي !.
وقال أبو محمد المرتعش: سكون القلب إلى غير المولى تعجيل عقوبة من الله في الدنيا.
وقال يحيى بن معاذ: النسك هو العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله ـ عز وجل ـ من القلب وأما عري القلب فإنه يكون بذهاب التقوى قال تعالى: " وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ " فإذا فقد عنصر التقوى من القلب كثرت عليه الأخلاط واشتد جوعه، وقوي مرضه، وتمزق كساؤه وغطاءه، فلم يعد يقوي على مواجهة أدنى مصاعب الحياة وأضعفها، فلا ترى صاحبه إلا مغمومًا مهمومًا، يشكو الفاقة وهو غني، ويشكو الأسقام وهو صحيح، ويشكو العمى وهو يبصر، ويشكو الضيق وهو يسكن القصور!.
وما ذلك إلا بسبب الفساد الذي أصاب قلبه، فأفسد عليه عقله وروحه ونفسه وبدنه، فلم ينفع لعلاجه ما يملك ولا ما يسكن، وليس له علاج إلا بانتزاع الداء وجلب الدواء، وما دواؤه إلا بالتقوى " أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ".
قال سهل بن عبد الله: ما من ساعة إلا والله ـ عز وجل ـ مطلع على قلوب العباد، فأي قلب رأى فيه غيره، سلط عليه إبليس.
وعن عبد الجبار بن بشران قال: سمعت سهلا يقول: من نظر إلى الله عز وجل قريباً منه، بعد عن قلبه كل شيء سوى الله عز وجل، ومن طلب مرضاته أرضاه الله عز وجل، ومن أسلم قلبه تولى الله عز وجل جوارحه.
وعن محمد بن سعيد التميمي العابد قال: رأيت فتى في بعض سواحل الشام، فقلت يا فتى منذ كم أنت ههنا؟ قال: لا أدري قال: ولم؟ قال لأنه قبيح بمن يحب أن يحصي الأوقات على من يحبه ! ثم أنشدني:
إذا فرقت بين المحبين سلوة فحبك لي حتى الممات قرين
سأصفيك ودي ما حييت فإن أمت بودك عظمي في التراب دفين
فاقتراف المحرمات والاشتغال بالدنيا والحرص عليها، والتفريط في الأوامر والواجبات والغفلة عن الله جل وعلا، كلها تحدث في القلب مزيجا من الأخلاط التي تذهب بنور القلب وصفائه، ووده ونقائه، وتجعله أسيرا للهوى والشيطان والشهوات والنفس الأمارة بالسوء، فحينئذ يخلو القلب من نور الله، ويصبح مظلما مسودًا لا يبصر ولا يفقه شيئا.
قال ابن سمعون في مجلسه: " ما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ولا تمثال» (رواه البخاري ومسلم واللفظ له) فإذا كان الملك لا يدخل بيتا فيه صورة أو تمثال، فكيف تدخل شواهد الحق قلبًا فيه أوصاف غيره من البشر؟! ".
مختارات