" الداعيــة "
" الداعيــة "
منذن أن اهتديت ورزقني الله الاستقامة، وأنا أحرص على الدعوة إلى الله، وهداية الناس إلى طريق الحق.
فحولي أقارب وأحباب، وأصحاب وزملاء.. وكل منهم يحتاج إلى دعوة.. وحبب الله إلي أمر الدعوة، فما وجدت طريقًا إلا دخلته، وما رأيت مسلكًا إلا سرت فيه، جعلت جل وقتي في الدعوة... وأسر بين حين وآخر وأنا أرى ثمرة دعوتي سريعة، فأحمد الله عز وجل وأعزم على المضي في طريق الأنبياء والمرسلين.
دعوت والديَّ حتى قرت عيني بهما، ثم دعوت زوجتي حتى أصبحت معينة لي... بعضهم تجده مغرقًا في أوحال المعصية، وآخرون مقصرون في الأوامر الشرعية.
يخيل لي أن النار تجري وتلحق بالعاصي، وهو يهرب فأشفق عليه وأحرص على أن لا تمسه... فأجري لألحق به ممسكًا به، حتى لا يقع في الهاوية.. وربما لحقني أذى أو سلط أحد لسانه علي ورماني من كنانته بسهام... وكلها أحتملها، ففي جنب الله تهون المصائب، جميع من دعوتهم مباشرة كانوا مسلمين، في بعضهم بدع ومعاص ظاهرة، وآخرون تركوا السنن والمستحبات فأضحت لديهم متروكة منسية.. واكتسبت خبرة عملية في الدعوة وأصبحت أعرف من أين أبدأ، وكيف أحاور وألفت أذني أصوات الشكر والدعاء، وصمت عن سماع البذاءة والإهانة، والتهديد وكلما فترت نفسي وتراخت همتي تذكرت صبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وما لاقاه من عنت قومه، وما أصابه من مشقة ونصب وعناء... عندها تهون نفسي وتضيء معالمي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ففي صبره منهاج دعوة، وطريق حياة ومعلم تربية.
وإن تكالب الضعف وتردت النفس سارعت إلى التضرع والدعاء بأن يجعلني الله من الدعاة وأن يثبتني على دينه.
وأقمت أمام عيني أنني ناصح، وليس من شروط النصيحة القبول. ولذا مع مرور الأيام وطنت نفسي وألزمتها الصبر، وجعلت زادي الاحتساب، وأنعم به من زاد.
ولم يكن الدعاء والشكر، بل وحتى الثناء يقدم أو يؤخر في نفسي شيئًا فأنا أنتظر الجزاء في ذلك اليوم العظيم.. " يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " [عبس: 34].
شاء الله أن أتنقل في أعمال كثيرة، وهذه أفادتني ولله الحمد في كثرة الزملاء وتنوعهم.
ولكن محطتي الأخيرة التي شاء الله أن أتوقف فيها، هي مستشفى طبي، وصرح حضاري، يعج بمختلف الجنسيات، وتجتمع فيه مختلف الديانات، فهذا مسلم، وذاك نصراني وآخر بوذي، وتنوع كهذا ألقى علي عبئًا كبيرًا وهمًا ثقيلاً، فمن رؤية الكفار صباحًا ومساء، وشيوع بعض المنكرات كما أن قلة حصيلتي في اللغات الأجنبية وعدم توفر الكتيبات والنشرات بغير العربية كلها عوائق اجتممعت في وجهي، وكأنني أتيت لأقيد نفسي وأتوقف عن نشاطي.
ولكن لم أستسلم أو أتوقف، بل فكرت من أين أبدأ وماذا أقول؟! أسئلة تزاحمت في رأسي تبحث عن مخرج لها.
في وسط الموج الهادر من الأفكار عينت بجوار طبيب فلبيني الجنسية نصراني الديانة.
فبدأت أتقرب إليه طمعًا في إسلامه، وكان لطيف المعشر ونشأت بيني وبينه زمالة مشتركة فأصبح يحب الجلوس معي ويقبل حديثي.
ولكن فجأة عندما بدأت أحدثه عن الإسلام تحول إلى وحش كاسر، وانقلبت المودة إلى كره ظاهر، وغضب شديد، ولكن كنت آمل خيرًا، فوطنت الصبر وأنخت الاحتساب ليكون سلوتي.. وبدأت أتحاشى الحديث عن الإسلام مباشرة ولكن نفسي أبت ذلك !! بعد شهور طويلة، نمت ليلة بعد تفكير طويل، وأرق وكآبة.
وفي الصباح قررت أن أحدثه عن الإسلام في أقرب فرصة أجدها مناسبة حتى تبرأ ذمتي، ويذهب الحرج عن نفسي.. حتى وإن كانت النتائج عكسية، أليس شباب النصارى يطرقون بيوت المسلمين في أوروبا وأمريكا، وتغلق الأبواب مرة وأخرى، ولكنهم يعاودون الاتصال حتى يهددهم صاحب المنزل بالاتصال على الشرطة إن عادوا إليه، فمالي إذا أحجم وأتراجع؟! في صباح يوم مشرق جميل وجدت فرصة، فأطلقت لساني يحدثه عن الإسلام فما أن أحس بانطلاقي في الحديث حتى غضب غضبة عجيبة، وقام من مكانه بانفعال، وبصق في وجهي بوقاحة.. نازعتني العزة بالإثم وصرخ الكبرياء في نفسي، ولكن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تخالط شغاف قلبي، صبر على أذى المشركين رجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يوحده.
اجتمعت علي الهموم والغموم، وأجلب الشيطان علي بخيله ورجله، إنها بصقة في وجه مسلم !!! وممن؟! إنها من كافر.. ولماذا؟ لأنك دعوته إلى الإسلام.
تحرك هاجس الانتقام وتحركت يدي، وسبقها لساني أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وأعدت يدي إلى وجهي تزيل طعنة جهاد في سبيل الله، أدعوه جل وعلا أن يتقبلها مني..كآبة الحزن ارتسمت على وجهي، ضحى ذلك اليوم ومساءه، وخشيت أن أحدث أحدًا من أحبتي ولكني رأيت أن السكوت خير من أن يحدث أمر لا تحمد عقباه.. واستغفرت ربي ودعوته في تلك الليلة دعاء حارًا أسقط ردائي من كتفي وخررت لله ساجدًا.
مضت الأيام وحبل المودة مقطوع، والجفوة قائمة بيننا وفي تلك الأثناء كانت الهداية تخطو نحو بيت هذا الطبيب وذلك عن طريق زوجته التي تعمل في مكان آخر.. مرت ستة أشهر بعدها علمت بالخبر المفرح أن زوجته أسلمت.. ودعوت لها ولمن سعى في هدايتها... وخالطني بعض التشفي من ذلك الطبيب، هاهي في بيتك!! ولكني طأطأت رأسي حياء وخجلاً من ربي... مرت الأيام وأنا أترقب هذا الطبيب، ولكنها أيام طويلة باعدت فيها الأعمال بيننا حتى أتاني ذات يوم هاشًا باشًا نحوي فعلمت أن في الأمر تبدلاً، فإذا الأمر أكبر من ذلك إذ به يبشرني بإسلامه على يد زوجته، عانقته وأنا لا أخفي دمعة تسيل على خدي، فإذا به يزيلها بيده ويقبل جبيني، ثم بكى.
توطدت العلاقة بيننا وأصبح من أقرب الناس إلي ولكنه بين حين وآخر يذكرني بعتاب شديد.. لماذا تركتني بعد تلك الحادثة؟ ألست تدعو إلى الله حتى وإن فعلت ما فعلت؟ بعد سنوات سافر إلى بلاده، وأنا سافرت كذلك وفرقت بيننا الأوطان، ولكني أطمع في اجتماع لا فرقة بعده في جنات عدن.
وقفة: من المصائب استطالة الناس وكثرة القيل والقال، ولابد هنا من الصبر، ولذلك بوب البخاري (باب الصبر على الأذى) وقول الله تعالى: " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ " [الزمر: 10]، ثم أورد حديثًا عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليسَ أحَدٌ، أو: ليسَ شَيءٌ أصبَرَ على أذًى سَمِعَه منَ اللَّهِ، إنَّهم ليدعونَ لَهُ ولَدًا، وإنَّهُ لَيعافيهِم ويرزقُهُم».
وذكر البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم قسمة كبعض ما كان يقسم، فقال رجل من الأنصار: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله قال: «قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر».
مختارات