فوائد من اقتضاء الصراط المستقيم
كان عمر بن الخطاب يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحاً ، واجعله لوجهك خالصاً ، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً
والشهادة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله تتضمن : تصديقه في كل ما أخبر ، وطاعته في كل ما أمر ، فما أثبته وجب إثباته ، وما نفاه وجب نفيه .
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي : حسبك وحسب من اتبعك : الله ، فهو وحده كافيكم ، ومن ظن أن معناها : حسبك الله والمؤمنون ، فقد غلط غلطاً عظيماً من وجوه كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع
من أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله ، وتدبره بقلبه ، وجد فيه من الفهم والحلاوة والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره
القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن ، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن سنة ذلك المقبور وطريقته ، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه
أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم ، فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملاً ، أو لا قولاً ولا عملاً ، وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم . ولهذا كان السلف : سفيان بن عيينة وغيره يقولون : إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى
مع أن الله قد حذرنا سبيلهم ، فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه ، حيث قال فيما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ( لتتبعن سَنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه ، قالوا: يا رسول الله ! اليهود والنصارى ، قال : فمن ). فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب ، ومضاهاة لفارس والروم ، وهم الأعاجم . وليس هذا إخباراً عن جميع الأمة ، بل قد تواتر عنه ( لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة ) وأخبر ( أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة
قال تعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً .. ) وقال تعالى (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) . فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم : تارة بخلاً به ، وتارة اعتياضاً عن إظهاره بالدنيا ، وتارة خوفاً في أن يحتج عليهم بما أظهروه منه . وهذا قد يبتلى به طوائف من المنتسبين إلى العلم ، فإنهم تارة يكتمون العلم بخلاً به ، وكراهة لأن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه ، وتارة اعتياضاً عنه برئاسة أو مال ، فيخاف من إظهاره انتقاص رئاسته أو نقص ماله ، وتارة قد خالف غيره في مسألة ، أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسألة ، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل . ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي: أهل العلم يكتبون مالهم وما عليهم ، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم .
قال تعالى (..... وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) فوصف اليهود : أنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به ، والداعي إليه ، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له ، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليه ، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم . وهذا يُبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة ، أو المتصوفة أو غيرهم ، أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين – غير النبي صلى الله عليه وسلم - فإنهم لا يقبلون من الدين رأياً ورواية إلا ما جاءت به طائفتهم
كلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام – الذي هو الإسلام ، لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً أو باطناً بمجرد الاعتقادات من حيث الجملة – كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أتم ، وبُعدُه عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد
بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته ، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له ، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين ، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر ، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة ، لأمور : منها : أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال ، وهذا أمر محسوس ، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم ، واللابس لثياب الجند المقاتلة – مثلاً – يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم . ومنها : أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال . ومنها : أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر ، حتى يرتفع التميز ظاهراً ، بين المهديين المرضيين ، وبين المغضوب عليهم والضالين .
اعلم : أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثير ، مثل قوله لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلاث ( فاعتبروا يا أولي لأبصار ) وقوله ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب )
وصف الله أئمة المتقين فقال (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ) فبالصبر تترك الشهوات ، وباليقين تُدفع الشبهات
عن المعرور بن سويد قال ( رأيت أبا ذر عليه حلة وعلى غلامه مثلها ، فسألته عن ذلك ، فذكر أنه ساب رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيّره بأمه ، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إنك امرؤ فيك جاهلية ) . وفيه أن التعيير بالأنساب من أخلاق الجاهلية . وفيه أن الرجل – مع فضله وعلمه ودينه – قد يكون فيه بعض هذه الخصال ، المسماة بجاهلية ، وبيهودية ، ونصرانية ، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه فساداً إلا وهو يظهر في عمله
مما نهانا الله سبحانه فيه عن مشابهة أهل الكتاب ، قوله سبحانه (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) وهو نهي مطلق عن مشابهتهم ، وهو خاص أيضاً في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم ، وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي . وإن قوماً من هذه الأمة ، ممن ينسب إلى علم أو دين ، قد أخذوا من هذه الصفات بنصيب ، يرى ذلك من له بصيرة ، فنعوذ بالله من كل ما يكرهه الله ورسوله .
حديث أنس من قول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تشددوا على أنفسكم ، فيشدد الله عليكم ... ) . فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في الدين بالزيادة على المشروع . والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب : بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات ، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات . وفي هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة . وفيه أيضاً تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء يكون سبباً لتشديد آخر ، يفعله : إما بالشرع وإما بالقدر .
مما يشبه الأمر بمخالفة الكفار : الأمر بمخالفة الشياطين ، كما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يأكلن أحدكم بشماله ، ولا يشربن بها ، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها ) ، فإنه علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال : بأن الشيطان يفعل ذلك ، فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به ، ونظائره كثيرة .
وروى البيهقي بإسناد صحيح ، في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار قال : قال عمر ( لا تعلموا رطانة الأعاجم ، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ، فإن السخطة تنزل عليهم )
العبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلّت رغبته في المشروع وانتفاعه به ، بقدر ما اعتاض من غيره ، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ، ويتم دينه ويكمل إسلامه . ولذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه ، تنقـص رغبته وهمته في سماع القرآن حتى ربما كرهه . ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها : لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنّة . ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم ، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذلك الموقع . ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم ، لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام
العبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلّت رغبته في المشروع وانتفاعه به ، بقدر ما اعتاض من غيره ، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ، ويتم دينه ويكمل إسلامه . ولذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه ، تنقـص رغبته وهمته في سماع القرآن حتى ربما كرهه . ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها : لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنّة . ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم ، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذلك الموقع . ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم ، لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام
الشرائع أغذية القلوب ، فمتى اغتذت القلوب بالبدع ، لم يبق فيها فضل للسنن ، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث
فإذا أراد الله بعبده خيراً ألهمه دعـاءه والاستعانة به ، وجعـل استعانته ودعاءه سبباً للخير الذي قضاه له