1. مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار
ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وفهمه معناها، ووفقه للعمل بمقتضاها، والدعوة إليها. أشرف الأشياء قلبك ووقتك فإذا اهملت قلبك وضيعت وقتك، فما بقي معك؟ كل الفوائد ذهبت فانتبه لنفسك.
إخواني إن في مواعظ الأيام والليالي لعبرة لذوي البصائر ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور ثم تحمل إلى مضائق القبور، فكم قد شاهدتم من شخصيات في الأرض، قد وضعت، وكم قد عاينتم من أبدان ناعمة قد لفت وإلى مضيق الألحاد قد زفت فيا لها من غاية يستبق إليها العباد ويا له من مضمار يتناوبه جواد بعد جواد ويا له من هول شديد يعقبه أهوال شداد فتنة قبور وحشر في موقف مهيل موقف فيه تنقطع الأنساب وتخضع فيه الرقاب وتنسكب فيه العبرات وتتصاعد فيه الزفرات ذلك موقف تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، ويمد فيه الصراط، وحينئذ يقع الامتياز فناج مسلم ومكردس في النار.
قال بعض العلماء: من عجيب ما نقدت من أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه. وقد رأوا من انهدام الإسلام وموت السنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي والقبيح الذي يوبق ويؤذي. فلا أجد أحدًا منهم ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره. وما أرى لذلك سببًا إلا قلة مبالاتهم في الأديان وعظم الدنيا في عيونهم. ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين
قال يحيى بن معاذ: لست آمركم بترك الدنيا آمركم بترك الذنوب، ترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات.
قال إبراهيم الخواص: دواء القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وقف قوم على عالم فقالوا إنا سائلوك أفمجيبنا أنت قال سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، قالوا فأوصنا، قال تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال الأيام صحائف الأعمار فخلدوها أحسن الأعمال، فإن الفرص تمر مر السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران
روي أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم. فقالوا له الطعام فلم يأكل:وقال: فو الله لقد رأيت مصرعًا لا أزال أعمل له حتى اللقاء.
العاقل يكون بين الخوف والرجاء لكن يغلب الرجاء عند الاحتضار ويحسن الظن بالكريم الغفار ويستحضر أنه قادم على أكرم الأكرمين. وأجود الأجودين البر الرحيم.
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن كثرة ذكر الموت تردع عن المعاصي وتلين القلب القاسي، وتذهب الفرح بالدنيا وزينتها وزخارفها ولذاتها. وتحثك على الجد والاجتهاد في الطاعات وإصلاح أحوالك وشئونك والتنسخ من حقوق الله وحقوق خلقه، وتنفيذ الوصايا وأداء الأمانات والديون.
ُيقال إن العبد تعرض عليه ساعات عمره في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كل خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآها فارغة ساءه ذلك وتندم حين لا يفيده الندم. وأما الساعات التي كان يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور
قال بعض العلماء أدركت أقوامًا كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخرج أحدكم دينارًا ولا درهمًا إلا فيما يعود نفعه عليه فكذلك السلف لا يحبون أن تخرج ساعة بل ولا دقيقة من أعمارهم إلا فيما يعود نفعه عليهم ضد ما عليه أهل هذا الزمان من قتل الوقت عند المنكرات.
قال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهدًا. فانطلقت معه، فأتى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنيًا لو مُنيَّ، قلت: أن يرد والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويصلح. قال: فها نحن ثم نهض فجد واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات.
قال شريح: إني أصاب بالمصيبة فأحمد الله تعالى أربع مرات أحمده إذ لم تكن أعظم منها، وأحمده إذا رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني لاسترجاع ما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني.
قال حاتم الأصم: مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا، ولقد ماتت لي بنت فعزاني أكثر من عشرة آلاف وفاتتني صلاة الجماعة فلم يعزني أحد.
كان محمد بن سيرين يدخل السوق نصف النهار يُكبر ويسبح ويذكر الله، فقال له رجل: يا أبا بكر في هذه الساعة، قال: إنها ساعة غفلة ينبغي الذكر والتذكير فيها.
قال بعض العلماء: إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية فيحار عقلي فيها وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم وهم يتلون كلام الرحمن، أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجة به لذهب عنهم النوم فرحًا وسروا بما رزقهم الله ووفقهم له.
إذا علم العبد أن الله تعالى رحيم به ورءوف به وناظر إليه فكل ما يرد عليه من أنواع البلايا والرزايا والمصائب ينبغي له أن يصبر ويحتسب ولا يكترث بذلك فإنه لم يتعود من الله إلا خيرًا له. فليحسن ظنه بربه وليعتقد أن ذلك خيرًا له وأن له في ذلك مصالح خفية لا يعلمها إلا الله
قيل من علامات التوفيق دخول أعمال البر عليك من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنك مع السعي إليها، وفتح باب اللجاء والافتقار إلى الله تعالى في كل الأحوال، واتباع السيئة الحسنة، وعظم الذنب في قلبك وإن كان من صغائر الذنوب والإكثار من ذكر الله وشكره وحمده والاستغفار. ومن علامات الخذلان تعسر الطاعات عليك مع السعي فيها، ودخول المعاصي عليك مع هربك منها، وغلق باب الالتجاء إلى الله وترك التضرع له وترك الدعاء، وإتباع الحسنة بالسيئات، واحتقارك لذنوبك وعدم الاهتمام بها وإهمال التوبة منها والاستغفار ونسيانك لربك.
قال رجل لطاوس: أوصني قال أوصيك أن تحب الله حبًا حتى لا يكون شيء أحب إليك منه، وخفه خوفًا حتى لا يكون شيء أخوف إليك منه، وارج الله رجاء يحول بينك وبين ذلك الخوف وارض للناس ما ترضى لنفسك.
المراقبة في ثلاثة أشياء: مراقبة الله في طاعته بالعمل الذي يرضيه ومراقبة الله عند ورود المعصية بتركها ومراقبة الله في الهم والخواطر والسر والإعلان
قالت أسماء بنت عميس: إنا لعند علي بن أبي طالب بعد ما ضربه ابن ملجم، إذ شهق ثم أغمى عليه ثم أفاق فقال: مرحبًا مرحبًا، الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة فقيل له ما ترى، قال هذا رسول الله وأخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة والملائكة ينزلون يسلمون علي ويبشرون وهذه فاطمة قد طاف بها وصائفها من الحور وهذه منازلي في الجنة "لمثل هذا فليعمل العاملون".
عن كثير بن زيد قال: كبر حكيم بن حزام حتى ذهب بصره ثم اشتكى فاشتد وجعه فقلت لأحضرنه ولأنظرن ما يتكلم به فإذا هو يهمهم ويقول لا إله إلا الله أحبك وأخشاك حتى مات.
لما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى قالوا ما يبكيك، قال: بعد السفر وقلة الزاد وضعف اليقين وخوف الوقوع من الصراط في النار.
لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ثم قال مرحبًا بالموت زائر مغيب وحبيب جاء على فاقة اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك. اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر ثم قبض -رحمه الله
لما حضرت أبا الدرداء الوفاة جعل يجود بنفسه ويقول ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه ثم قبض -رحمه الله-.
عن أنس بن مالك قال: يُؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفتي الميزان ويوكل به ملك فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يُسْمع الخلائق سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا وإن خف ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.
قال عمرو بن ذر لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم. قاموا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مستبشرين بما قد وهب الله لهم من السهر وطول التهجد. فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل، وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى الليل بربح وغبن.
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة، فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وهو الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء أخبارها
قال بعض العلماء إذا عصيت الله بموضع بأن حصل منك ذنب فاعمل في ذلك الموضع طاعة كاستغفار وذكر لله ونحو ذلك فكما يشهد عليك يشهد لك.
اعلم أن من كان داؤه المعصية، فشفاؤه الطاعة، ومن كان داؤه الغفلة، فشفاؤه اليقظة، ومن كان داؤه كثرة الأشغال، فشفاؤه في تفريغ المال. فمن تفرغ من هموم الدنيا قلبه، قل تعبه، وتوفر من العبادة نصيبه، واتصل إلى الله مسيره، وارتفع في الجنة مصيره، وتمكن من الذكر والفكر والورع والزهد والاحتراس من وساوس الشيطان، وغوائل النفس.
قال ابن القيم رحمه الله إن الذي يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك هو الرضى بحكم الله عز وجل وقسمه لك. فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع. والذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه. وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضًا. فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها.
قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وإتقانه، وتحسينه. فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه.
قيل لبعض العلماء : كيف أصبحت فبكى، وقال أصبحت في غفلة عظيمة عن الموت مع ذنوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجل يسرع كل يوم في عمري، وموئل لست أدري علاما أهجم ثم بكى.
قال بعض العلماء : لا تغتم إلا من شيء يضرك غدًا (أي في الآخرة) ولا تفرح بشيء لا يسرك غدًا، وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال الحزن منك على ما فاتك من الطاعة، وألزمك الفكر في بقية عمرك.
قال بعض العلماء : عليك بصحبة من تذكرك الله عز وجل رؤيته، وتقع هيبته على باطنك ويزيد في عملك منطقه. ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله.
قال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة، ليكن أنس المريدين به دونها، وليقبل المطيعون له بالإعراض عنها، وأهل المعرفة بالله فيها مستوحشون، وإلى الآخرة مشتاقون.
إخواني المؤمن يتقلب في الدنيا على جمرات الحذر في نيران الخوف، يرهب العاقبة، ويحذر المعاقبة، فالخوف من النار متمكن من سويداء قلبه. فإن هفا بأن حصل منه زلة توقدت في قلبه نار الندم، وإن تذكر ذنبًا إضطرمت نار الحزن في باطنه، وإن تفكر في مصيره ومنقلبه التهبت نار الحذر في قلبهن وصار لا يهنؤه طعام ولا شراب.
قيل إن نوحًا عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام جاء ملك الموت ليقبض روحه بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر الله أعلم. فسأله ملك الموت قال له يا أطول الأنبياء عمرًا كيف وجدت الدنيا فقال كدارٍ لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.
قال الحسن البصري ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود.
قال حكيم من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه.
قال ابن القيم رحمه الله وعمارة الوقت الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله تعالى أو يعين على ذلك من مأكل ومشرب أو منكح أو منام أو راحة. فإن متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت.
قال بعض العلماء أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء. انشغالهم بالنعمة عن شكرها. ورغبتهم في العلم وتركهم العمل. وإقبال الآخرة وهم معرضون عنها. والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم. وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها. والمسارعة إلى المعاصي والذنوب وتأخير التوبة.
قال سفيان الثوري دخلت على جعفر الصادق فقلت له ما لي أراك سكنت دارك ولا تخالط الناس. فقال نعم يا ابن سعيد في العزلة دعة وفي الدعة القناعة وما قدر لك يأتيك. يا سفيان فسد أهل الزمان وتغير الأصدقاء فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد.
أعلم أن قصر الأمل ديدن العلماء العاملون المتقون الورعون المبعدون عن التكالب على الدنيا الزاهدون في حطامها الفاني وكذلك أرباب القلوب الواعية وإن لم يكونوا علماء يقصرون أملهم ويحتقرون الدنيا ويعلمون أنها زائلة عكس ما عليه أكثر أهل الزمان عبيد الدنيا للبطون والفروج.
قال عيسى عليه السلام الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها هذا مثل واضح فإن الدنيا معبر إلى الآخرة والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة واللحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة.
فائدة نفيسة قال أحد العلماء رحمه الله تعالى أعلم أن الدنيا رأس كل خطيئة وقد صارت عدوة لله وعدوة لأوليائه وعدوة لأعدائه، أما عداوتها لله تعالى فلأنها قطعت الطريق بينه وبين أوليائه. ولهذا فإنه لم ينظر إليها منذ خلقها، وأما عداوتها لأوليائه فلأنها تزينت لهم بزينتها وغمرتهم بزهرتها وتزهت لهم بنضارتها حتى تجرعوا مرارات الصبر في مقاطعتها وتحملوا المشاق في البعد منها. وأما عداوتها لأعدائه فلأنها استدرجتم بمكرها ومكايدها واقتنصتهم بحبائلها وأقصدتهم بسهامها حتى وثقوا بها وعولوا عليها. فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها وغدرت بهم أسكن ما كانوا إليها فاجتنوا منها حسرة تنقطع دونها الأكباد. وحرمتهم السعادة الأخروية على طول الآماد فانتبه يا من اغتر بها قبل أن يصيبك مثل ما أصاب المغترين بها.
قال بعض العارفين إذا كان أبونا آدم بعد ما قيل له أسكن أنت وزوجك الجنة صدر منه ذنب واحد فأمر بالخروج من الجنة فكيف نرجوا دخولها مع ما نحن مقيمون عليه من الذنوب المتتابعة والخطايا المتواترة.
كان أبو الفتح المنهى قد برع في الفقه وتقدم عند العوام وحصل له مال كثير ودخل بغداد وفوض إليه التدريس بالنظامية وأدركه الموت بهمدان. فلما دنت وفاته قال لأصحابه أخرجوا فلما خرجوا عنه جعل يلطم وجهه ويقول "يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله" ويقول لنفسه موبخًا لها يا أبا الفتح ضيعت العمر في طلب الدنيا وتحصيل المال والجاه والتردد إلى السلاطين
أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه مع عبد له كيسًا من الدراهم إلى أبي ذر رضي الله عنه وقال لعبده إن قبل هذا أبو ذر فأنت حر أي عتيق فأتى بالكيس إلى أبي ذر وألح عليه في قبوله فلم يقبل فقال الغلام لأبي ذر إنه علق عتقي على قبولك هذا الكيس فقال أبو ذر لكن في قبوله رقي.
عباد الله يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا له ولا يغتر بشبابه وصحبته فإن أقل من يموت الشيوخ الطاعنين في السن. وأكثر من يموت الشبان خصوصًا في زمننا الذي كثرت فيه الحوادث ولهذا يندر من يكبر
البدار البدار والحذر الحذر من الغفلة والتسويف وطول الأمل فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً. وإنما يقدم على المعاصي ويؤخر التوبة لطول الأمل وتبادر الشهوات. وتنسى التوبة والإنابة لطول الأمل وتفقد أوقاتك وما عملت فيها من الذنوب. وتنسى التوبة والإنابة لطول الأمل فيا أيها المهمل وكلنا كذلك انتهز فرصة الإمكان وتفقد أوقاتك وما عملت فيها من الذنوب. فبادر في محوها بالتوبة النصوح وأكثر من الدعاء والاستغفار كل وقت خصوصًا أوقات الإجابة. ومن أوقات الإجابة ثلث الليل الآخر.
فعلى الإنسان أن يكثر من الدعاء والإلحاح فيه، فإن الدعاء له أثر عظيم، وموقع جسيم، وهو مخ العبادة. لا سيما مع حضور قلب، وإخبات، وخشوع وذل، وانكسار، ورقة، وتضرع وخشية، واستقبال القبلة حال دعائه، وعلى طهارة، ويجدد التوبة، ويكثر من الاستغفار، ويبدأ بحمد الله وتنزيهه، وتمجيده، وتقديسه، والثناء عليه، وشكره، ثم يصلي على النبي بعد الثناء على الله. ويدعو بالدعاء المشروع باسم من أسماء الله الحسنى، مناسب لمطلوبه، فإن كان يريد علمًا قال يا عليم علمني، وإن كان يطلب رحمة قال يا رحمن ارحمني، وإن كان يسأل رزقًا قال يا رزاق ارزقني ونحو ذلكن ويوقن بالإجابة
إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها، فليس لك إلا الدعاء واللجوء إلى الله، بعد أن تقدم التوبة من الذنوب، فإن الزلل يوجب العقوبة فإذا زال الذنب بالتوبة الصادقة النصوح، ارتفع السبب. فإذا أثبت ودعوت ولم تر لإجابة الدعاء أثرًا، فتفقد نفسك فربما كانت التوبة ما صحت فصححها ثم ادع ولا تضجر ولا تمل من الدعاء فإنه عبادة، وربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، وربما لم تكن المصلحة في الإجابة فأنت تثاب وتجاب إلى منافعك ومن منافعك أن لا تعطى ما طلبت بل تعوض غيره. فإذا جاءك الشيطان فقال إلى متى تدعو ولا تجاب فقل: أنا أتعبد بالدعاء، الدعاء مخ العبادة وأنا واثق كل الثقة بالإجابة لأن الله أصدق القائلين.
قال أحد الوعاظ هذا نذير الموت قد غدا يقول الرحيل غدا، كأنكم بالأمر وقد قرب ودنا، فطوبى لعبد استيقظ من غفلته ووعا.
كان صفوان بن سليم قد كف بصره في آخر عمره فبينما هو ذات يوم بالسوق يقاد إذ دخل بلال بن أبي بردة فسمع الطريق والجلاوزة بين يديه. فقال ما هذا فقيل بلال فقال سحائب صيف عن قريب تقشع فسمعه بلال. فقال والله لأذيقنك من بردك شؤبونا فلما نزل بهيكله بعث في طلبه ثم ضربه بالسياط نعوذ بالله من الظلمة وأعوانهم.
عن مالك بن أنس أنه قال لو قيل لصفوان بن سليم غدًا يوم القيامة ما قدر على أن يزيد على ما هو فيه من العبادة شيئًا.
ذكر أن رياح بن يزيد كان على أتانه في سفر إذا غشيته السلابة (أي قطاع الطريق) وهو يسير فأخذوا أتانه ونزعوا ثيابه إلا واحدًا ثم ذهبوا عنه. فمال رياح إلى موضع فأحرم بتكبيرة ثم أقبل يصلي فبينما هو يصلي إذا أظلمت السماء فلم تدري السلابة أين يتوجهون. فلما طوَّل في الصلاة قالوا أحسن صلاتك يا عبد الله أما ترى ما نزل بنا ولا نحسب ذلك إلا من أجلك. فسلم ثم التفت إليهم فقال ما تريدون أخذتوا ثيابي وحماري فردوا عليه ثيابه ودابته فانجلت عنهم الظلمة.
قال ابن القيم ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة أن من أدمن (أي أكثر) من قول "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت" أورثه ذلك حياة القلب والعقل.
قال أحد فصحاء الملوك في خطبته: ألم تروا مصارع من كان قبلكم كيف استدرجتهم الدنيا بزخارفها ونفتهم ثم تركتهم وقد تخلت عنهم فهم في حيرة وظلمة مدلهمة تركوا الأهلين والأولاد والعيال والأموال. مساكنهم القبور وقد خلت منهم الدور وتقطعت منهم الأوصال والصدور وصاروا ترابًا باليًا وكان الله لهم ناهيًا قال تعالى: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ? [فاطر: 6] [فاطر: 5].
قال علي بن أبي طالب من هوان الدنيا وحقارتها أن الله أخرج أطايبها من خسائسها فالدنيا سبعة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومنكوح ومسموع ومبصر. أما المأكولات فأشرفها العسل وهو لعاب ذباب وأطيب المشروبات الماء ويستوي في شربه الآدمي والكلب والخنزير والحمار. وأفضل الملبوسات الحرير والإبريسم وهو لعاب دودة وأشرف المناكح النساء وحقيقتها مبال في مبال وأشرف المشمومات المسك وهو دم غزال والمسموع والمبصر مشترك بين ذلك وبين البهائم.
أعلم أن حب الدنيا يندر من يسلم منه وهو ينبعث من طول الأمل لأن الإنسان يقول الأيام بين يدي وأفعل غدًا كذا وبعد غد سأفعل وأتمتع بالدنيا والتوبة مفتوح بابها وتتمادى به الأيام في جمع الأموال وبناء القصور ونحو ذلك وتشعب آماله إلى أن ينسى أن النفس الواحد يبعده من الدنيا ويدنيه من الآخرة.