فوائد من المواعظ
إخواني: لو تَفكَّرت النُّفُوسُ فِيمَا بَينَ يَدَيهَا وَتَذَكَّرَت حِسَابهَا فيما لها وعليها لبعث حزنها بريد دمها إليها أما يحق البُكاء لمن طالَ عِصيانهُ: نهاره في المعاصي وقد طال خُسرانه وليله في الخطايا فقد خفَّ ميزانه وبين يديه الموت الشديد فيه من العذاب ألوانه
فيا قاسي القلب هَلاَّ بكيت على قسوتك ويا ذاهل العقل في الهوى هَلاَّ ندمت على غفلتك ويا مقبلاً على الدنيا فكأنك في حفرتك ويا دائم المعاصي خف من غبِّ معصيتك ويا سيئ الأعمال نُح على خطيئتك ومجلسنا مَأتَمٌ للذنوب فابكوا فقد حَلَّ مِنَّا البُكَاء ويوم القيامة ميعادنا لكشف الستور وهتك الغطاء
يا هذا لو علمت ما يفوتك في السحر ما حملك النوم تقدم حينئذ قوافل السهر على قلوب الذاكرين وتحط رواحل المغفرة على رباع المستغفرين من لم يذق حلاوة شراب السحر لم يبلغ عِرفانه بالخير من لم يتفكر في عمره كيف انقرض لم يبلغ من الحزن الغرض
إخواني تفكروا في الحشر والمعاد وتذكروا حين تقوم الأشهاد: إن في القيامة لحسرات وإن في الحشر لزفرات وإن عند الصراط لعثرات وإن عند الميزان لعبرات وإن الظلم يومئذ ظلمات والكتب تحوى حتى النظرات وإن الحسرة العظمى عند السيئات فريق في الجنة يرتقون في الدرجات وفريق في السعير يهبطون الدركات وما بينك وبين هذا إلاَّ أن يقال: فلان مات وتقول: رَبِّ ارجعوني فيقال: فات
لله درَ أقوام أطار ذكر النار عنهم النوم وطال اشتياقهم إلى الجنان الصوم فنحلت أجسادهم وتغيرت ألوانهم ولم يقبلوا على سماع العذل في حالهم واللوم دافعوا أنفسهم عن شهوات الدنيا بغد واليوم دخلوا أسواق الدنيا فما تعرضوا لشراء ولا سوم تركوا الخوض في بحارها والعوم ما وقفوا بالإِشمام والروم جدوا في الطاعة بالصلاة والصوم هل عندكم من صفاتهم شئ يا قوم
إني إذا ذكرت أهل النار وما يُنزلُ بهم من عذاب الله تعالى مثلت نفسي بينهم فكيف لنفس تغلّ يدها وتسحب إلى النار ولا تبكي
طوبى لمن بادر عُمره القصير فعمَّر به دار المصير وتهيأ لحساب الناقد البصير قبل فوات القدرة وإعراض النصير
إخواني: أكثروا من ذكر هاذم اللذات وتفكروا في انحلال بناء اللذات وتصوروا مصير الصور إلى الرفات وأَعدوا عدةً تكفي في الكفات واعلموا أن الشيطان لا يتسلط على ذاكر الموت وإنما إذا غفل القلب عن ذكر الموت دخل العدو من باب الغفلة
يا من قد امتطى بجهله مطايا المطالع لقد ملأ الواعظ في الصباح المسامع تالله لقد طال المدى فأَين المدامع أَين الذين بلغوا المنى فما لهم في المنى منازع رمتهم المنايا بسهامها في القوى والقواطع فعلموا أن أيام النعم في زمان الخوادع ما زال الموت يدور على الدوام حتى طوي الطوالع صار الجندل فراشهم بعد أن كان الحرير فيما مضى المضاجع ولقوا والله غاية البلاء في تلك البلاقع جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا وبنوا مساكنهم فما سكنوا فكأَنهم بها ظعناً لما استراحوا ساعة ظعنوا لقد أُمكنتَ الفرصة أيها العاجز ولقد زال القاطع وارتفع الحاجز ولاح نور الهدى فالمجيب فائز وتعاظمت الرغائب وتفاقمت الجوائر فأَين الهمم العالية وأَين النجائز أَما تخافون هادم اللذات والمنى والمناجز
كم سلبت الدنيا أقواماً أقواماً كانوا فيها وعادت عزهم أحلاماً أحلاماً فتفكر في حالهم كيف حال وانظر إلى من مال إلى مال وتدبر أحوالهم إلى ماذا آل وتيقن أنك لاحق بهم بعد ليال عُمرك في مدةٍ ونفسك معدود وجمسك بعد مماتك مع دود كم أمّلت أملاً فانقضى الزمان وفاتك وما أراك تفيق حتى تلقى وفاتك فاحذر زلل قدمك وخف طول ندمك واغتنم وجودك قبل عدمك واقبل نصحى لا تخاطر بدمك
لله در أقوام هجروا لذيذ المنام وتنصلوا لما نصبوا له الأقدام وانتصبوا للنصب في الظلام يطلبون نصيباً من الإنعام إِذا جنّ الليل سهروا وإذا جاء النهار اعتبروا وإذا نظروا في عيوبهم استغفروا واذا تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا
دركت قوماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الضجعة يا منازل الأحباب: أين ساكنوك يا بقاع الإِخلاص: أين قاطنوك يا مواطن الأَبرار: أَين عامروك يا مواضع التهجد: أين زائروك خلت والله الديار وباد القوم وارتحل أرباب السهر وبقي أهل النوم واستبدل الزمان أكل الشهوات
أيها العبد: تفكر في عُمر مضى كثيره وفي قدم ما يزال تعثيره وفي هوى قد هوى أسيره وفي قلب مشتت قد قل نظيره وتفكر في صحيفة قد اسودت وفي نفس كلما نصحت صدت وفي ذنوب ما تحصى لو أنها عدت
إخواني: من تفكر في ذنوبه تاب ورجع ومن تذكر قبيح عيوبه ذل وتواضع ومن علم أن الهوى يسكن تصبر ومن تلمح إساءته لم يتكبر
فيا أيها العبد عُد على نفسك باللوم والمقت واحذرها فكم ضيعت عليك من وقت واندم على زمان الهوى فمن كيسك أنفقت ونادها يا محل كل بلية فقد والله صدقت
يا نفس: بادري بالأوقات قبل انصرامها واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها فكأنك بالقبور وقد تشققت وبالأمور وقد تحققت وبوجوه المتقين وقد أشرقت وبرءوس العصاة وقد أطرقت يا نفس: أما الورعون فقد جدلوا وأما الخائفون فد استعدوا وأما الصالحون فقد راحوا وأما الواعظون فقد صاحوا يا نفس: اتعبي قليلاً تستريحي في الفردوس كثيراً كأنك بالتعب قد مضى وبحرصك من اللعب قد مضى
أيها العبد: إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر واعلم أنه لا يدرك المفاخر من كان في الصف الآخر
أيها العبد: حاسب نفسك في خلوتك وتفكر في انقراض مدتك واعمل في زمان فراغك لوقت شدتك وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك وانظر: هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك لقد سعد من حاسبها وفاز والله من حاربها وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها وكلما ونت عاتبها وكلما تواقفت جذبها وكلما نظرت في آمال هواها غلبها
إخواني: المؤمن مع نفسه لا يتوانى عن مجاهدتها وإنما يسعى في سعادتها فاحترز عليها واغتنم لها منها فإنها إن علمت منك الجد جدت وإن رأتك مائلاً عنها صدت وإن حثها الجد بلحاق الصالحين سعت وقفت وإن توانى في حقها قليلاً وقفت وإن طالبها بالجد لم تلبث أن صفت وأنصفت وإن مال عن العزم أماتها وإن التفت عربدت
يا هذا: هلال الهدى لا يظهر في غيم الشبع ولكن يبدو في صحو الجوع وترك الطمع واحذر أن تميل إلى حب الدنيا فتقع ولا تكن من الذي قال: سمعت وما سمع ولا ممن سوف يومه بغده فمات ولا رجع كلا ليندمن على تفريطه وما صنع وليسألن عن تقصيره في عمله وما ضيع فيا لها من حسرة وندامة وغصةٍ تجرع عند قراءة كتابه وما رأى فيه وما جمع فبكى بكاء شديداً فما نفع وبقى محزوناً لما رأى من نور المؤمن يسعى بين يديه وقد سمع فلا ينفعه الحزن ولا الزفير ولا البكاء ولا الجزع
إخواني: لقد خاب من آثر شهوة من حرام فإن عقباها تجرع حميم آن وخسر - والله - من أطلق نفسه فيما تريد بعد أن سمع الزبانية وأغلال الحديد وهلك كل الهلك وبار كل البوار من اشترى لذة ساعة بعذاب النار
إخواني: من علم عظمة الإله زاد وجله ومن خاف نقم ربه حسن عمله فالخوف يستخرج داء البطالة ويشفيه وهو نعم المؤدب للمؤمن ويكفيه
الخوف للنفس سائق والرجاء لها قائد إن ونت على قائدها حثها سائقها وإن أبت على سائقها حركها قائدها مزيح الرجاء يسكن حر الخوف وسيف الخوف يقطع سيف - سوف - وإن تفكر في الإنعام شكر وأصبح للهم قد هجر وإن نظر في الذنوب حذر وبات جوف الليل يعتذر وأنشد: أَظلَت عَلينا مِنكَ يوماً سَحابةً أَضَاءَت لَنا برقاً وأَمطَرتنا فَلا غيمَها فيائسٌ طامعٌ ولا غَيثَها باقي فيروى عطاشها
إخواني: الموت في طريق الطلب: خير من العطب في طريق البطالة ما هذا! أدم السهر والصوم وخل لأربابه طول النوم وشمر في لحاق القوم فإذا وصلت إلى دوائك: أنخت بجناب يا هذا: عليك بإدمان الذكر لعل ذكرك القليل ينمى ذكره الجليل (وَلَذِكرُ اللَهِ أَكبَرُ)
يبقى العاصي نادماً على تفريطه مُحسر مثقل بحمل خطاياه وفي ذيل ذنوبه معثر فإذا دعي لقراءة كتابه رأى ما فيه من السيئات تحير ويرى غيره قد أمر به إلى النار مسحوب مجرجر فيندم فلا ينفع ويبكي فلا يُسمَعُ ولا يُرحم ولا يعذر فالعذاب الشديد لمن كد وطغى وتجبر ونصحتك فالتوبة التوبة فعسى بعد الكسر تجبر فهو المعين لمن لجأ إليه فله الحمد على ما قضى وقدر
يا هذا: طهر قلبك من الشوائب فالمحبة لا تلقى إلا في قلبٍ طاهر أما رأيت الزارع يتخير الأرض الطيبة ويسقيها ويرويها ثم يثيرها ويقلبها وكلما رأى حجراً ألقاه وكلما شاهد ما يؤذى نجاه ثم يلقى فيها البذر ويتعاهدها من طوارق الأذى وكذلك الحق عز وجل إذا أراد عبداً لوداده حصد من قلبه شوك الشرك وطهره من أوساخ الرياء والشك ثم يسقيه ماء التوبة والإنابة ويثيره بمسحأة الخوف والإخلاص فيستوي ظاهره وباطنه في التقى ثم يلقى فيه بذر الهدى فيثمر حب المحبة فحينئذ تحمد المعرفة وطناً ظاهراً وقوتاً طاهراً فيسكن لب القلب ويثبت به سلطانها
لله درُّ نفس تطهرت من أجناس هواها وتجلببت جلباب الصَّبر عند دنياها وشغلها ما رأى قلبها عما رأت عيناها وإن مالت إلى الدنيا نهاها نُهاها وإن مالت إلى الهوى شفاها شفاها سهرت تطلب رضى المولى فرضى عنها وأرضاها وقامت سوق المجاهدة على سوق هداها فباعت حرصها بالقناعة فظفرت بغناها وفوقت سهام العزائم إلى أهداف المحارم تبتغي علاها ورمت نجائب الأسحار فساقها حادى الاستغفار إذ عناها
يا من نسي العهد القديم وخان من الذي سواك في صورة الإنسان من الذي غذاك في أعجب مكان من الذي بقدرته استقام الجثمان الذي بحكمته أبصرت العينان من الذي بصنعته سمعت الأذنان من الذي وهب العقل فاستبان للرشد وبان من الذي بارزته بالخطايا وهو يستر العصيان مَنِ الذي تركت شكره فلم يؤاخذ بالكفران إلى كم تخالفني وما يصبر على الخلاف الأبوان وتعاملني بالغدر الذي لا يرضاه الإخوان وتنفق في خِلافي ما عَزَّ عِندك وهان ولو علم الناس منك ما أعلم: ما جالسوك في مكان فارجع إليَّ
يا واقفاً مع الأماني ضيعت عمرك يا فارحاً بقصره تذكر قبرك يا حاملاً أثقال الذنوب هلا خففت ظهرك سار الصالحون إلى ذكرنا وآثرت هجرك وسمعت سيرهم وضيعت أجرك 0 إن أردت صحبة المتقين فاشرح لليقين صدرك وإن أحببت حلاوة العواقب فاستعمل صبرك
يا من له قلبٌ ومات يا من كان له وقت وفات أشرف الأشياء قلبك ووقتك فإذا أهملت وَيَبكي عَلى الموتَى ويَترُكُ نفسه ويزعَمُ أَنَّ قَد قَلَّ عَنها عَزَاؤُهُ ولَو كانَ ذا رأىٍ وعقلٍ وَفِطنَةٍ لكانَ عَليهِ لا عَليهِم بُكَاؤُهُ
لله در أقوام أقبلوا بالقلوب على مقلبها وأقاموا النفوس بين يدي مؤدبها وسلموها إذا باعوها إلى صاحبها وأحضروا الآخرة فنظروا إلى غائبها وسهروا الليالي كأنهم وُكِّلوا بِرَعىِ كواكبها ونادوا أنفسهم صبراً على نار حطبها ومقتوا الدنيا فما مالوا إلى ملاعبها واشتاقوا إلى لقاء حبيبهم فاستطالوا مدة المقام بها
أيها العبد: راقب من يراك على كل حال وما زال نظره إليك في جميع الأفعال وطهر سرك فهو عليم بما يخطر بالبال المراقبة على ضربين مراقبة الظاهر لأجل من يعلم وحفظ الجوارح عن رذائل الأفعال واستعمالها حذراً ممن يرى فأما مراقبة الباطن فمعناها أدب القلب من مساكنة خاطر لا يرضاه المولى وأجد السير في مراعاة الأولى وأما مراقبة الظواهر فهي ضبط الجوارح
إلى متى أنت مريض بالزكام ومتى تستنشق ريح قميص يوسف عليه السلام يا غلام لعله يرفع عن بصيرتك حجاب العمى وتقف متذللاً على باب إله الأرض والسماء خرج قميص يوسف مع يهوذا من مصر إلى كنعان فلا أهل القافلة علموا بريحه ولا حامل القميص علم وإنما قال صاحب الوجد: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) كل واحد منكم في فقد قلبه كيعقوب في فقد يوسف فلينصب نفسه في مقام يعقوب ويتحسر وليبك على ما سلف ولا ييأَس كيف طريق التحسس قطع مرحل الليل وركوب نجائب العزم إنضاء بعير الجسم ومصاحبة رفقة الندم والمستغفرين بالأسحار
إخواني: من أراد دوام العافية فليتق الله ما أقبل مقبلٌ عليه إلا وجد كل خير لديه ولا أعرض معرض عن طاعته إلا وتعثر في ثوب غفلته
اعلموا - إخواني - أن الله عز وجل قد قدر الصلوات وقدمها على غيرها من العبادات وإنما يحافظ عليها من يعرف قدرها ويرجو أجرها ويخاف العقاب على تركها وهذه صفة المؤمن وإنما يتوانى عنها ناقص الإيمان
واعلموا - إخواني - أن من أحب المخدوم أحب الخدمة له لو عرف العبد من يناجى لم يقبل على غيره والصلاة صلة بين العبد وبين ربه 0 الستر الأول: الأذان كالإذن في الدخول 0 وستر التقريب الإقامة: فإذا كشف ذلك الغطاء لاح للمتقي قُرة العين فدخل في دائرة دار المناجاة (أَرحنا بها يا بلال) فقد (جعلت قرة عيني في الصلاة) اكشف يا بلال ستر التقريب عن الحبيب يا بطَّال: لو سافرت بلداً لم تربح فيه حزنت على فوات ربحك وضياع وقتك أفلا يبكي من دخل في الصلاة على قرة العين ثم خرج بغير فائدة
قال الله عز وجل: (وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى) 0 أحدهما: إنه قيام العبد بين يدي ربه يوم الجزاء 0 والثاني: إنه قيام الله تعالى عباده فأحصى ما اكتسب والمراد بالهوى ههنا ما يهوى العبد من المحارم فيذكر مقامه للحسنات واعلم: أن من تفكر عند إقدامه على الخطيئة في نظر الحق إليه رده فكره خجلاً مما هم به