فوائد من صيد الخاطر 2
قال سفيان بن عيينة: قال لي أبي - وقد بلغت خمس عشرة سنة - إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها ولا أميل عنها
إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو
على قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب،
من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق. فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى مقادير تلك الذنوب، يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب. فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه.
سبحان المتصرف في خلقه بالاغتراب والإذلال ليبلو صبرهم، ويظهر جواهرهم في الابتلاء. هذا آدم صلى الله عليه وسلم تسجد له الملائكة ثم بعد قليل يخرج من الجنة. وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه ثم بعد قليل ينجو في السفينة ويهلك أعداؤه. وهذا الخليل عليه السلام يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة. وهذا الذبيح يضطجع مستسلماً ثم يسلم ويبقى المدح. وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول. وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعي ثم يرقى إلى التكليم. وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقال له بالأمس اليتيم ويقلب في عجائب يلاقيها من الأعداء تارة ومن مكائد الفقر أخرى
أجهل الجهال من آثر عاجلاً على آجل لا يأمن سوء مغبته. فكم قد سمعنا عن سلطان وأمير صاحب مال أطلق نفسه في شهواتها، ولم ينظر في حلال وحرام فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ، ولقي من مرير الحسرات ما لا يقاومه ولا ذرة من كل لذة.
الدنيا محبوبة للطبع لا ريب في ذلك ولا أنكر على طالبها ومؤثر شهواتها. ولكن ينبغي له أن ينظر في كسبها ويعلم وجه أخذها، ليسلم له عاقبة لذته. وإلا فلا خير في لذة من بعدها نار
اللذات كلها بين حسي وعقلي، فنهاية اللذات الحسية وأعلاها النكاح. وغاية اللذات العقلية العلم، فمن حصلت له الغايتان في الدنيا فقد نال النهاية
من أراد دوام العافية والسلامة فليتق الله عز وجل. فإنه ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافيه التقوى وإن قل إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة. ومن الاغترار أن تسيء فترى إحساناً فتظن أنك قد سومحت، وتنسى: " مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ " . وربما قالت النفس: إنه يغفر فتسامحت ولا شك أنه يغفر ولكن لمن يشاء.
قال بعض المعتبرين: أطلقت نظري فيما لا يحل لي، ثم كنت أنتظر العقوبة، فألجئت إلى سفر طويل لا نية لي فيه، فلقيت المشاق، ثم أعقبت ذلك موت أعز الخلق عندي، وذهاب أشياء كان لها وقع عظيم عندي، ثم تلافيت أمري بالتوبة فصلح حالي.
من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها وعقابها، وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل ؟ فإنك تقف عن الصعود، وتأخذ في الهبوط ويقال لك ابق بما اخترت، فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له، لم يزل في نزول. وكان مثله في سوء اختياره كالمثل المضروب: أن الكلب قال للأسد: يا سيد السباع، غير اسمي فإنه قبيح، فقال له: أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم، قال: فجربني، فأعطاه شقة لحم وقال: احفظ لي هذه إلى غد وأنا أغير اسمك. فجاع وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر. فلما غلبته نفسه قال: وأي شيء باسمي ؟ وما كل إلا إسم حسن. فأكل، وهكذا الخسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل.
رأيت الخلق كلهم في صف محاربة، والشياطين يرمونهم بنبل الهوى، ويضربونهم بأسياف اللذة. فأما المخلطون فصرعى من أول وقت اللقاء. وأما المتقون ففي جهد جهيد من المجاهدة، فلا بد مع طول الوقوف في المحاربة من جراح، فهم يجرحون ويداوون إلا أنهم من القتل محفوظون، بلى ! إن الجراحة في الوجه شين باق، فليحذر ذلك المجاهدون.
الدنيا فخ، والجاهل بأول نظرة يقع، فأما العاقل المتقي فهو يصابر المجاعة، ويدور حول الحب، والسلامة بعيدة. فكم من صابر اجتهد سنين ثم في آخر الأمر وقع. فالحذر الحذر. فقد رأينا من كان على سنن الصواب، ثم زل على شفير القبر.
اعلموا إخواني ومن يقبل نصيحتي. أن للذنوب تأثيرات قبيحة، مرارتها تزيد. على حلاوتها أضعافاً مضاعفة. والمجازي بالمرصاد لا يسبقه شيء ولا يفوته.
من العجب إلحاحك في طلب أغراضك وكلما زاد تعويقها زاد إلحاحك. وتنسى أنها قد تمتنع لأحد أمرين، إما لمصلحتك فربما معجل أذى، وإما لذنوبك فإن صاحب الذنوب بعيد من الإجابة. فنظف طرق الإجابة من أوساخ المعاصي. وانظر فيما تطلبه هل هو لإصلاح دينك، أو لمجرد هواك ؟.
وأنت في إلحاحك بمثابة الطفل يطلب ما يؤذيه فيمنع رفقاً به. وإن كان لصلاح دينك فربما كانت المصلحة تأخيره، أو كان صلاح الدين بعدمه. وفي الجملة تدبير الحق عز وجل لك خير من تدبيرك، وقد يمنعك ما تهوى ابتلاء ليبلو صبرك. فأره الصبر الجميل تر عن قرب ما يسر.
يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً. ولا يغترر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان. ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا: يعمّر واحدٌ فيغرّ قوماً ... وينسى من يموت من الشباب
ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفة أعظم منه. فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً. وإنما يقدم المعاصي ويؤخر التوبة لطول الأمل وتبادر الشهوات، وتنسى الإنابة لطول الأمل. وإن لم تستطع قصر الأمل فاعمل عمل قصير الأمل. ولا تمس حتى تنظر فيما مضى من يومك، فإن رأيت زلة فامحها بتوبة، أو خرقاً فارقعه باستغفار.
فإن النفس كالفرس المتشيطن إن أهملت لجامه لم تأمن أن يرمي بك. وقد والله دنستك أهواؤك، وضيعت عمرك. فالبدار البدار في الصيانة، قبل تلف الباقي بالصبابة. فكم تعرقل في فخ الهوى جناح حازم، وكم وقع في بئر بوار مخمور. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إخواني: اسمعوا نصيحة من قد جرب وخبر. إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم. ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه، ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق. وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته. ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته - مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم - فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير
أيها المذنب: إذا أحسست نفحات الجزاء فلا تكثرن الضجيج، ولا تقولن قد تبت وندمت، فهلا زال عني من الجزاء ما أكره ! فلعل توبتك ما تحققت. وإن للمجازاة زماناً يمتد امتداد المرض الطويل. فلا تنجع فيه الحيل حتى ينقضي أوانه. وإن بين زمان: وعصى إلى إبان: فتلقى مدة مديدة. فاصبر أيها الخاطيء حتى يتخلل ماء عينيك خلال ثوب القلب المتنجس. فإذا عصرته كف الأسى، ثم تكررت دفع الغسلات حكم بالطهارة.
الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي، فإن نارها تحت الرماد. وربما تأخرت العقوبة ثم فجأت، وربما جاءت مستعجلة، فليبادر بإطفاء ما أوقد من نيران الذنوب، ولا ماء يطفىء تلك النار إلا ما كان من عين العين. لعل خصم الجزاء يرضى قبل أن يبت الحاكم في حكمه.
واعجبا من عارف بالله عز وجل يخالفه ولو في تلف نفسه. هل العيش إلا معه ؟ هل الدنيا والآخرة إلا له ؟. أف لمترخص في فعل ما يكره لنيل ما يحب. تالله لقد فاته أضعاف ما حصل.
تلاعبت في بحر العمر ريح الضعف ففرقت تلفيق القوي وكان قد فصلت المركب. بلغت نهاية الأجل وعين هواك تتلفت إلى الصبا
الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد، لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه. فأمر بقصد نيته ورفع اليدين إليه والسؤال له. فقلوب الجهال تستشعر البعد، ولذلك تقع منهم المعاصي إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكف عن الخطايا. والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة وكفتهم عن الانبساط.
" وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها " . كم كائد نصب لك المكايد فوقاك ؟. كم عدو حط منك بالذم فرقاك ؟. كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك ؟. كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك ؟. فأنت تصبحين وتمسين سليمة البدن، محروسة الدين، في تزيد من العلم وبلوغ الأمل.
ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة. وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها. ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
تأملت وقوع المعاصي من العصاة فوجدتهم لا يقصدون العصيان، وإنما يقصدون موافقة هواهم، فوقع العصيان تبعاً. فنظرت في سبب ذلك الإقدام مع العلم بوقوع المخالفة فإذا به ملاحظتهم لكرم الخالق، وفضله الزاخر. ولو أنهم تأملوا عظمته وهيبته ما انبسطت كف بمخالفته
قرأت سورة يوسف عليه السلام، فتعجبت من مدحه عليه السلام على صبره وشرح قصته للناس ورفع قدره بترك ما ترك. فتأملت خبيئة الأمر فإذا هي مخالفة للهوى المكروه. فقلت: واعجباً لو وافق هواه من كان يكون ؟.
تأملت حالة أزعجتني، وهو أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل وهي لا تحبه، وكذا يفعل مع صديقه والصديق يبغضه، وقد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه والسلطان لا يؤثره؛ فيبقى متحيراً يقول: ما حيلتي. فخفت أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه، أتقرب إليه وهو لا يريدني. وربما يكون قد كتبني شقياً في الأزل. ومن هذا خاف الحسن فقال: أخاف أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال: لا غفرت لك
العاقل من يحفظ جانب الله عز وجل وإن غضب الخلق. وكل من يحفظ جانب المخلوقين ويضيع حق الخالق يقلب الله قلب الذي قصد أن يرضيه فيسخطه عليه. قال المأمون لبعض أصحابه: لا تعص الله بطاعتي فيسلطني عليك.
رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به. فواعجباً كيف ضاقوا بحبسه ذرعاً ثم لاموا من أفشاه.
إنما الرجل الحازم الذي لا يتعداه سره ولا يفشيه إلى أحد. ومن العجز إفشاء السر إلى الولد والزوجة. والمال من جملة السر. فإطلاعهم عليه يجر المتاعب إن كان كثيراً فربما تمنوا هلاك الموروث. وإن كان قليلاً تبرموا بوجوده. وربما طلبوا من الكثير على مقدار كثرته فأتلفته النفقات.
ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورة، ويتجنب المحظورات فحسب إنما المؤمن هو الكامل الإيمان، لا يختلج في قلبه اعتراض، ولا يساكن نفسه فيما يجري وسوسة. وكلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه.
ما يكاد يحب الاجتماع بالناس إلا فارغ. لأن المشغول القلب بالحق يفر من الخلق ومتى تمكن فراغ القلب من معرفة الحق امتلأ بالخلق فصار يعمل لهم ومن أجله ويهلك بالرياء ولا يعلم.
والعجب كل العجب ممن يرى نفسه، أتراه بماذا رآها !. إن كان بالعلم فقد سبقه العلماء، وإن كان بالتعبد فقد سبقه العباد، أو بالمال فإن المال لا يوجب بنفسه فضيلة دينية.
متى رأيت صاحبك قد غضب وأخذ يتكلم بما لا يصلح، فلا ينبغي أن تعقد على ما يقوله خنصراً، ولا أن تؤاخذه به. فإن حاله حال السكران، لا يدري ما يجري. بل اصبر لفورته، ولا تعول عليها، فإن الشيطان قد غلبه، والطبع قد هاج، والعقل قد استتر.
من عرف الشرع كما ينبغي وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم وأحوال الصحابة وأكابر العلماء علم أن أكثر الناس على غير الجادة. وإنما يمشون مع العادة، يتزاورون فيغتاب بعضهم بعضاً، ويطلب كل واحد منهم عورة أخيه
من علم قرب الرحيل عن مكة استكثر من الطواف خصوصاً إن كان لا يؤمل العود لكبر سنه وضعف قوته. فكذلك ينبغي لمن قاربه ساحل الأجل بعلو سنه أن يبادر اللحظات، وينتظر الهاجم بما يصلح له.
من أراد أن يعلم حقيقة الرضى عن الله عز وجل في أفعاله، وأن يدري من أين ينشأ الرضى، فليفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه رأى أن الخالق مالك، وللمالك التصرف في مملوكه