فوائد من طريق الهجرتين
يحسن إعمال اللسان في ذم الدنيا في موضعين : أحدهما : موضع التزهيد فيها للراغب . والثاني : عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها ، ولا يأمن إجابة الداعي ، فيستحضر في نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها ، فإنه إن تم عقله وحضر رشده زهد فيها ولا بد
الغنى قسمان : غنى سافل ، وغنى عال . فالغنى السافل الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، وهذا أضعف الغنى ، فإنه غنى بظل زائل ، وعارية ترجع عن قريب إلى أربابها ، فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها ، وكأن الغنى بها كان حلماً فانقضى ، ولا أحب إلى الشيطان وأبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده
قال بعض السلف : إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء : مؤمن قتل مؤمناً ، ورجل يموت على الكفر ، وقلب فيه خوف الفقر
هو في وادٍ والناس في واد . خاضع متواضع سليم القلب . سلس الانقياد للحق . سريع القلب إلى ذكر الله . بريء من الدعاوى ، لا يدعي بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله . زاهد في كل شيء سوى الله . راغب في كل ما يقرب إلى الله . لا يفرح بموجود ، ولا يأسف على مفقود . من جالسه قرت عينه به . ومن رآه ذكرته رؤيته بالله سبحانه . وصفه الصدق والعفة والإيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال . لا يتوقع لما يبذله للناس منهم عوضاً ولا مدحة . لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يرى له على أحد حقاً ولا يرى له على أحد فضلاً . مقبل على شأنه ، مكرم لإخوانه ، بخيل بزمانه ، حافظ للسانه .
عذاب الحجاب ( عن رب العالمين ) من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به أعداءه ، كما قال تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) .
كل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته ، وعذابه أعظم من نعيمه ، فما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة ، ولا استنصر بغيره إلا خذل .
السعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم في الله ، وخاف الله فيهم ولم يخفهم في الله ، وأرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله ، وراقب الله فيهم ولم يراقبهم في الله ، وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه ، وأحْيا حب الله وخوفه ورجاءه فيه .
معنى قوله تعالى ( وخلق الإنسان ضعيفاً ) : قال طاوس ومقاتل وغيرهما : لا يصبر عن النساء . وقال الحسن : هو خلقه من ماء مهين . وقال الزجاج : ضعف عزمه عن قهر الهوى . والصواب أن ضعفه يعم هذا كله ، وضعفه أعظم من هذا وأكثر ، فإنه ضعيف البنية ، ضعيف القوة ، ضعيف الإرادة ، ضعيف العلم ، ضعيف الصبر
الرب تعالى أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء ، وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص ، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خال عن الحكمة والمصلحة
معنى قوله ( الحمد كله لله ) فهذا له معنيان : أحدهما : أنه محمود على كل شيء ، وبكل ما يحمد به المحمود التام . والمعنى الثاني : أن يقال ( لك الحمد كله ) أي الحمد التام الكامل ، فهذا مختص بالله عز وجل ليس لغيره فيه شركة . والتحقيق أن له الحمد بالمعنيين جميعاً .
كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين : إما أن تكون طبيعته يابسة قاسية غير لينة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها . وإما أن تكون لينة منقادة سلسلة القياد ، لكنها غير ثابتة على ذلك ، بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب . فمتى رزق العبد انقياداً للحق وثباتاً عليه فليبشر ، فقد بشر بكل خير .
إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن : فإن ردّه ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه ، وجمعه عليه وطرحه ببابه ، فهو علامة سعادته وإرادة الخير به ، والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت . وإن لم يردّه ذلك البلاء إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به .
إن الله إذا أراد بعبده خيراً سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه ، والإخبار بها من لسانه ، وشغله برؤية ذنبه ، فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس ، فالأول علامة السعادة والثاني علامة الشقاوة
من الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم . ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر ، قد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله . ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة . ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي ، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات . ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته . ومن الناس من يكون طريقه الصوم ، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه . ومن الناس من طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قد فتح الله له فيه ونفذ فيه منه إلى ربه . ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار .
إن الرب إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس ، وأظلمت أرجاؤها ، وانكسفت أنوارها ، وظهرت عليها وحشة الإعراض ، وصارت مأوى للشياطين ، وهدفاً للشرور ، ومصباً للبلاء
العبد من حين استقرت به قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه ، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له ، فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه تعالى ، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره ، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل ، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر
ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك ، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك ، وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذي يضرب بزهده المثل مع أن خزائن الأموال تحت يده ، بل كحال سيد ولد آدم حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح ، ولا يزيده ذلك إلا زهداً
من أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه ، فإن النفس لا تقعد فارغة ، بل إن لم تشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد .
المحبة المشتركة ثلاثة أنواع : أحدها: محبة طبيعية مشتركة، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء وغير ذلك ، وهذه لا تستلزم التعظيم. والنوع الثاني : محبة رحمة وإشفاق ، كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها ، وهذه أيضاً لا تستلزم التعظيم . والنوع الثالث : محبة أنس وإلف ، وهي محبة مشتركة – في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر – بعضهم بعضاً ، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضاً . فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض ، ووجودها فيهم لا يكون شركاً في محبة الله .
المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله وحده ومتى أحب العبد بها غيره كان شركاً لا يغفره الله ، فهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم ، فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلاً
سمى ذلك الإنفاق قرضاً حسناً ، حثاً للنفوس وبعثاً لها على البذل ، لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوّعت له نفسه بذله ، وسهل عليه إخراجه ، فإن علم أن المستقرض مليّ وفيّ محسن كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه ، فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه وينميه له ويثمره حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح ، فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجراً آخر من غير جنس القرض ، وأن ذلك الأجر حظ عظيم وعطاء كريم فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشح أو عدم الثقة بالضمان ، وذلك من ضعف إيمانه . ولهذا كانت الصدقة برهاناً لصاحبها .