فوائد من عدة الصابرين
الفرق بين الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة : الفرق بين هذه الأشياء بحسب حال العبد في نفسه وحاله مع غيره . فإن حبس نفسه ومنعها عن إجابة داعي ما لا يحسن إن كان خُلقاً له ومَلَكة سمي صبراً . وإن كان بتكلف وتمرن وتجرع لمرارته سمي تصبراً . وأما الاصطبار فهو أبلغ من التصبر ، فإنه افتعال للصبر بمنزلة الاكتساب ، فالتصبر مبدأ الاصطبار ، فلا يزال التصبر يتكرر حتى يصير اصطباراً . وأما المصابرة فهي مقاومة الخصم في ميدان الصبر ، فإن مفاعلة تستدعي وقوعها بين اثنين كالمشاتمة والمضاربة .
الصبر باعتبار متعلقه أقسام : صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها . وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها . وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها .
الصبر نوعان : اختياري واضطراري والاختياري أكمل من الاضطراري ، فإن الاضطراري يشترك فيه الناس ويتأتى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختياري ، ولذلك كان صبر يوسف الصديق عن مطاوعة امرأة العزيز وصبره على ما ناله في ذلك من الحبس والمكروه أعظم من صبره على ما ناله من إخوته لـمّا ألقوه في الجب ، وفرقوا بينه وبين أبيه فباعـوه بيع العبد .
البواعث الدينية التي تعين على الصبر : أحدها : إجلال الله تبارك وتعالى أن يعصى وهو يرى ويسمع . الثاني : مشهد محبته سبحانه فيترك معصيته محبة له . الثالث : مشهد النعمة والإحسان فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه . الرابع : مشهد الغضب والانتقام ، فإن الرب إذا تمادى العبد في معصيته غضب . الخامس : مشهد الفوات وهو ما يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة . السادس : مشهد القهر والظفر ، فإن قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة ومسرة وفرحة عند من ذاق ذلك أعظم من الظفر بعدوه من الآدميين وأحلى وقعاً وأتـم فرحة
قالت طائفة : الصبر عن المخالفات أفضل . لأنه أشق وأصعب ، فإن أعمال البر يفعلها البر والفاجر ، ولا يصبر على المخالفات إلا الصديقون . قالوا : ولأن ترك المحبوب الذي تحبه النفوس دليل على أن من ترك لأجله أحب إليه من نفسه وهواه بخلاف فعل ما يحبه المحبوب فإنه لا يستلزم ذلك .
من عوّد نفسه العمل لله لم يكن عليه أشق من العمل لغيره ، ومن عوّد نفسه العمل لهواه وحظه لم يكن عليه أشق من الإخلاص والعمل لله ، وهذا في جميع أبواب الأعمال ، فليس شيء أشق على المنفق لله من الإنفاق لغيره وكذا بالعكس .
قال النبي ( من سمع بالدجال فلينأ عنه ) فما استعين على التخـلص من الشر بمثل البعد عن أسبابه ومظانه
ههنا لطيفة للشيطان لا يتخلص منها إلا حاذق ، وهي أن يظهر له في مظان الشر بعض شيء من الخير ويدعوه إلى تحصيله ، فإذا قرب منه ألقاه في الشبكة
كيف الصبر بعد الفراغ من العمل: يكون بوجوه : أحدها : أن يصبر نفسه عن الإتيان بما يبطل عمله ، فليس الشأن الإتيان بالطاعة ، إنما الشأن في حفظها مما يبطلها . الثاني : أن يصبر عن رؤيتها والعجب بها والتكبر والتعظم بها ، فإن هذا أضر عليه من كثير من المعاصي الظاهرة . الثالث : أن يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية ، فإن العبد يعمل العمل سراً بينه وبين الله سبحانه فيكتب في ديوان السر ، فإن تحدث به نقل إلى ديوان العلانية
الصبر عن معاصي اللسان والفرج أصعب أنواع الصبر : لشدة الداعي إليهما وسهولتهما ، فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان ، كالنميمة والغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضاً وتصريحاً . ولذلك تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورع من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة ، ويطلق لسانه في الغيبة والنميمة والتفكه في أعراض الخلق . وكثير ممن تجده يتورع عن الدقائق من الحرام والقطرة من الخمر ، ومثل رأس الإبرة من النجاسة ، ولا يبالي بارتكاب الفرج الحرام .
قول النبي في وجعه ( وارأساه ) هذا إنما قيل على وجه الإخبار لا على وجه شكوى الرب تعالى إلى العوّاد ، فإذا حمد المريض الله ثم أخبر بعلّته لم يكن شكوى منه
متى أراد الله بالعبد كمالاً وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعد له ، قابلٌ له ، قد هيء له ، فإذا استفرغ وسعه بزَّ على غيره وفاق الناس فيه
ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة ، بل القيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله ، وأكثر الديّانيين لا يعبأون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس . وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده ، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه ، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهـم فضلاً عن أن يريدوا فعلها وفضلاً عن أن يفعلوها
أربح الناس في المال والملك والعلم من جعلها وسائل إلى الله والدار الآخرة ، وذلك الذي ينفعه في معاشه ومعاده ، وأخسر الناس من توسل بها إلى هواه ونيل شهواته وأغراضه العاجلة .
التفاخر بالعلم أسوأ حالاً عند الله من التفاخر بالمال والجاه فإنه جعل أسباب الآخرة للدنيا ، وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر بأسبابها
حب الدنيا رأس الخطايا ومفسد للدين إنما كان كذلك لوجوه : أحدها : أن حبها يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله ، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر الله . وثانيها : أن الله لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها ، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه . وثالثها : أنه إذا أحبها صيرها غايته وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة ، فعكس الأمر وقلب الحكمة فانتكس قلبه وانعكس سيره إلى وراء . ورابعها : أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة لاشتغاله عنه بمحبوبه . وخامسها : أن محبتها تجعلها أكثر هـــمّ العبد . وسادسها : أن مُحبّها أشد الناس عذاباً بها . وسابعها : أن عاشقها ومحبها الذي يؤثرها على الآخرة من أسْفه الخلق وأقلهم عقلاً ، إذ آثر الخيال على الحقيقة ، والمنام على اليقظة ، والظل الزائل على النعيم الدائم ، والدار الفانية على الدار الباقية
إنما تحصل الهموم والغموم والأحزان من جهتين : أحدهما : الرغبة في الدنيا والحرص عليها . والثاني : التقصير في أعمال البر والطاعة
الشكوى إلى المخلوق ، فإذا شكى العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه . ومما ينافي الصبر : شق الثياب عند المصيبة ولطم الوجه والضرب بإحدى اليدين على الأخرى ، وحلق الشعر والدعاء بالويل . ومما يقدح في الصبر : إظهار المصيبة والتحدث بها ، وكتمانها رأس الصبر . ويضاد الصبر : الهلع وهو الجزع عند ورود المصيبة ، والمنع عند ورود النعمة .