كتاب الفنون للإمام أبي الوفاء علي بن عقيل
حكمــــــة
ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم:
قال الأحنف لابنه: يا بني، ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم: من أتى مائدة لم يُدَعَ إليها، والمتأمر على أهل البيت في بيته، ومن جلس مجلسًا لا يستحقه، والداخل بين اثنين في شيء - أو قال: في أمر - لم يُدخِلاه فيه، وطالب الخير من اللئام، وطالب الفضل من أعدائه، والمقدم بالدالة على السلطان.
حكمــــــة
من أعظم الذنوب وأقبحها:
من أعظم الذنوب وأقبحها أن تغر أخاك بفعل حتى إذا فعله عدت بفعله ذامًّا ومعيرًا، وهذا عقوبته من الله عظيمة، ومقابلته سريعة؛ لأن الله سبحانه جعلك أهدى إلى الخير والشر بقوة الرأي، فصرفت القوة التي هي نعمة الله عليك إلى إغواء أخيك وغروره، حتى إذا وقع في ورطته، واستحكمت مصيبته بما دلست عليه من أمره، زدته بالمعيرة بلاء، والله مطلع، وهو المعطي السالب، ومن أحد عقوباته استرجاع نعمته، وتركك تتعثر في أمورك، وتتخبط عشواء في آرائك؛ فالله الله في أذيه عباده فإنه بالمرصاد.
حكمــــــة
لطف الله عز وجل بالخواص من عباده:
رُوي فيما صحت به الرواية أن سليمان عليه الصلاة والسلام خرج للاستسقاء، فوجد نملة رافعة قوائمها نحو السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلقك، ليس بنا غناء عن رزقك، فاسقنا، فقال: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم، فإذا كان الله سبحانه يأتي بالألطاف بطلب البهائم، فلا يحسن إنكار ألطافه بالخواص من عباده.
حكمــــــة
الشيب:
الشيب مرض الموت لولا أنه مألوف، وإلا فسَلْ عنه الطب، فقل: ما هذا العارض؟ هل هو زائل، أم لا؟ فإذا أجمع الكل على أنه ذبول يتزايد، وتحلل يترادف ويتتالى، فاعلم أنه مرض الموت... فتأهب للنقلة، فقد استقرت العلة.. إنني لك ناصح.. يا أخي، فما غسلت سيئة بأحسن من دمعة حسرة على فائت من عمرك في غير ما خلقت له.
حكمــــــة
الأمراض موسم العقلاء:
الأمراض مواسم العقلاء يستدركون بها ما فات من فوارطهم وزلاتهم، إن كانوا من أرباب الزلات، ويستزيدون من طاعاتهم إن لم يكونوا أرباب زلات، ويعتدونها إن خلصوا منها بالمعافاة حياة بعد اللمات، فمن كانت أمراضه كذا، اغتنم في الصحة صحة، فقام من مرضه سليم النفس والدين، والكامد ينفق على الأدوية، ويعالج الحمية، ويوفى الطب الأجر، وليس عنده علاج دينه خبر، فذاك ينصرع بالمرض انصراع السكران، ويفيق من مرضه إفاقة الإعداد لسكر ثانٍ.
حكمــــــة
الظلم عاقبته وخيمة:
حُكي أن بعض الوزراء ظلم رجلًا، فقال له الرجل: اتق الله، وكف عني، وإلا دعوت الله تعالى عليك، فقال له الوزير: ادعُ بما شئت، فما مضت أيام حتى قُبض على الوزير، وعُذب، فكتب إليه الرجل بهذين البيتين:
سهام الليل لا تهدأ ولكن
لها أمد وللأمد انتهاء
أتهزأ بالدعاء وتزدريه
تأمل فيك ما فعل الدعاء
حكمــــــة
العقل:
قال عالم: العقل أفضل ما منحه الله خلقه، وامتن به عليه في استعماله في طاعة مانحه، وتعظيم أمره ونهيه، ليقع الشكر من النعمة موقعه، واستعمله بعد ذلك في مكارم الأخلاق مع خلق الله. فإن من جميل شكره الإحسان إلى خلقه، وثمرة العقل طاعة الله فيما أمرك ونهاك، وعدلك في معاملة الناس في التأدب لهم والإنصاف، فعقل لا يثمر طاعة الحق، ولا إنصاف الخلق، كعين لا تبصر، وأذن لا تسمع.
حكمــــــة
اجتهد أن تجعل جميع أفعالك طاعات لله، حتى اللذات ونيل الشهوات:
روي في الحديث أن الصحابة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنقضى شهواتنا ونثاب عليها؟ فقال: نعم»؛ يعنون في باب النكاح، وهذا منه صلى الله عليه وسلم يشير إلى معنى لا إلى نفس قضاء وطر الفرج، وشهوة النفس، لكن لأن في طي النكاح والمباضعة فيه اتباع سنة، وإيثار إكثار لعبيد الله في هذه الأمة، ومعلوم أن من دعا إلى الله عبدًا موجودًا، فكان جهبذًا في دعايته وهدايته، كان ممدوحًا بذلك مثابًا، فكيف بمن سعى في إيجاد عبد من عبيد الله يكثر به أمة رسول الله؛ حيث قال: « تناكحوا تناسلوا، أكاثر بكم الأمم »؟ وما أقدر المكلف أن يجعل جميع حركاته طاعات لله! كالنفقة على عياله، وأكل الطعام قصدًا إحياء نفسه، وتقويتها على طاعة الله.
لو قصد قاصد بنومه تقليل معاصيه، أو تنفير نفسه عن شر اليقظة، لكان في نومه طائعًا، فاجتهد أن تجعل جميع أفعالك طاعات، حتى اللذات، ونيل الشهوات.
حكمــــــة
صُنْ نفسك عن الذل والضرع للخلق:
يا مصنوعًا في أحسن تقويم، يا مخصوصًا بالاطلاع والتعليم... افتح عينك وانظر من أنت، وعبد من أنت، فصُنْ نفسك عن الذل والضرع للخلق، واحملها على الإجمال في الطلب، فما زاد الحرص رزقًا، والثقة بالله حصن منيع من الضراعة، وذخر يوفى على الطاعة، والتوسل في الرزق شناعة، وملاك الأمر مع الله الاستجابة والطاعة.
حكمــــــة
جاهدة النفس في حقوق الله، والانتهاء عن محارم الله:
لو لم يكن من بركات مجاهدة النفس في حقوق الله، والانتهاء عن محارم الله، إلا أنه يعطف عليك، فيسخرها لك، ويطوعها لأمرك حتى تنقاد لك، ويسقط عنك مؤونة النزاع لها، والمجاهدة حتى تصير طوع يدك وأمرك، تعاف المستطاب عندها إذا كان عند الله خبيثًا، وتؤثر العمل لله وإن كان عندها بالأمس كريهًا، وتستخفه وإن كان عليها ثقيلًا، حتى تصير رقًّا لك بعد أن كانت تسترقك.
حكمــــــة
نصيحة قس بن ساعدة لبنيه:
عن عبدالله بن عباس عن أبيه رضي الله عنهما قال: بلغنا أن قس بن ساعدة جمع ولده، فقال: من عيرك شيئًا ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، ومتى عدلت على نفسك عدل عليك من فوقك، وإذا نهيت عن شيء فابدأ بنفسك، ولا تجمع ما لا تأكل، ولا تأكل ما لا تحتاج، وإذا اذخرت فلا يكن ذخرك وكنزك إلا فعلك، ولا تشاورنَّ مشغولًا ولا جائعًا، ولا مذعورًا، وإن كان فهمًا، ولا تجعلن في عنقك طوقًا لا يمكنك نزعه إلا بشق نفسك، وإذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاقتصد، ولا تستودعن ذنبك - أو قال سرك - أحدًا، وإن قربت قرابته، فإنك إذا فعلت ذلك، لم تزل وجلًا، وكان المستودع بالخيار في الوفاء والغدر، وكنت له عبدًا ما بقيت، وإن جنى عليك كنت أولى بذلك، وإن كان هو المسيء، كان الممدوح دونك.
حكمــــــة
وصية لمعلم الأولاد:
أوصى عتبة معلم أولاده، فقال: "ليكن إصلاحك بنيَّ إصلاحك نفسك، فإن عيونهم معقودة بعيبك، فالحسن عندهم ما فعلت، والقبيح عندهم ما تركت، علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تدعهم منه فيهجروه، ووهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه، ولا تخرجهم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام على السمع مضلة للفهم، وتهددهم بي، وعاقبهم دوني، وامنعهم من محادثة النساء، وأشغلهم بسير الحكماء".