الفصل الرابع عشر في زيارة مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – وغيره
الفصل الرابع عشر في زيارة مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – وغيره
1- حرمة المدينة كحرمة مكة، ولا ثالث لهما:
وحرم المدينة محدد بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (المدينة حَرَمٌ ما بين عير إلى ثور) [36]، وهو ما بين لابتَيْها.
واللاَّبة: هي الحَرَّة، وهى الأرض التي فيها حجارة سود، وهو بُرَيْد في بُرَيْد –والبُرَيْد: أربع فراسخ - فهذا الحرم لا يُصطاد صيده، ولا يقطع شجره إلا لحاجة؛ كآلة الركوب والحرث، ويؤخذ من حشيشه ما يُحتاج إليه للعلف؛ فإن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - رخَّص لأهل المدينة في هذا لحاجتهم إليه، وإذا أدخل عليه صيدٌ لم يكن عليه إرساله.
والحرم المُجمَع عليه حرم مكة، والمدينة لها حرم عند الجمهور، ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في وجوه وواد بالطائف – وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم.
ولا يقال حرم المقدس وحرم الخليل؛ فإن هذين وغيرهما ليس بحرمٍ باتفاق المسلمين.
2-آداب الزيارة:
فإذا دخل المدينة فإنه يأتي مسجد النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - ويصلي فيه: (والصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام)، كما لا تُشَدُّ الرحال إلا إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى؛ أخرجه البخاري: 1189، 1190، ومسلم: 1397، 1396.
ومسجده كان أصغر مما هو اليوم وكذلك المسجد الحرام لكن زيد فيهما، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام.
ثم يسلم على النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم – وصاحبيه؛ فإنه قد قال: (ما من رجل يسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام)؛ رواه أبو داود وغيره.
وكان عبدالله بن عمر يقول إذا دخل المسجد: " السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتٍ "، ثم ينصرف.
وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه، مستقبلي الحجرة مستدبري القبلة عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد. وأبو حنيفة قال: يستقبل القبلة فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة ومنهم من قال: يجعلها عن يساره.
واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها، ولا يطوف بها ولا يصلي إليها.
وإذا قال في سلامه: " السلام عليك يا رسول الله، يا نبي الله، يا خيرة الله من خلقه، يا أكرم الخلق على ربه، يا إمام المتقين " ؛ فهذا كله من صفاته - بأبي هو وأمي، صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة؛ فإن هذا كله منهيٌّ عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك.
ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده، فإنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). يحذِّر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكنه كره أن يُتَّخذ مسجدًا؛ أخرجه البخاري: 1330، ومسلم: 529. فدفنته الصحابة في موضعه الذي مات فيه من حجرة عائشة، وكانت وسائر الحجر خارج المسجد من قبليِّه وشرقيِّه.
ولما كان في زمن الوليد بن عبدالملك عُمِّر هذا المسجد وغيره، فدخلت الحجرة في المسجد من ذلك الزمان، وبنيت منحرفةً عن القبلة مسنَّمةً، لئلا يصلي أحدٌ؛ إليها لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)؛ رواه مسلم: 972.
والله أعلم.
3- زيارة مسجد قباء:
ويستحب أن يأتي مسجد قباء ويصلى فيه فإن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم -قال (الصلاة في مسجد قباء كعمرة)قال الترمذي: حديث حسن.لكنه يزار من المدينة وليس لأحد أن يسافر إليه لنهيه- صلَّى الله عليه وسلَّم -أن تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة، كما مر.
4- رفع الأصوات في المساجد:
ورفع الصوت في المساجد منهيٌّ عنه، وهو في مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشد.
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - رأى رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد؛ فقال: " لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربًا؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -!! " ؛ البخاري: 470.
5- تمور المدينة ومياهها:
أما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه؛ بل غيره من التمر البرني والعجوة خيرٌ منه، وصحَّ عنه: (من تصبح كل يوم سبع تمراتٍ عجوةً؛ لم يضرَّه ذلك اليوم سمٌّ ولا سِحْرٌ)؛ رواه البخاري: 5445، ومسلم: 2047.
ولم يكن بالمدينة على عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عين جارية، لا الزرقاء ولا عيون حمزة ولا غيرهما؛ بل كل هذا مستخرجٌ بعده.
6- زيارة المسجد الأقصى - فك الله أسره:
والسفر إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف مستحب، ولا يفعل فيه وفي مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلا ما يفعل في سائر المساجد، وليس فيها شيءٌ يُتمسَّح به ولا يُقبَّل ولا يُطاف به، هذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة.
ولا يستحب زيارة الصخرة؛ بل المستحب أن يصلي في قبليِّ المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين.
7- زيارة القبور شرعية وبدعية:
أ-فالشرعية: المقصود بها السلام على الميت والدعاء له، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنة أن يسلِّم على الميت ويدعو له، سواء كان نبيًّا أو غير نبي؛ لأمره- صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنَّا بعدهم، واغفر لنا ولهم) [37].
وهكذا إذا زار أهل البقيع أو زار شهداء أُحد أو غيرهم، وليست الصلاة عند قبورهم أو قبور غيرهم مستحبة عند أحد من أئمة المسلمين؛ بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبر أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم أفضل من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك، باتفاق أئمة المسلمين؛ بل الصلاة في المساجد التي على القبور إمَّا محرمة وإما مكروهة.
وتُزار القبور بالزيارة الشرعية من كان قريبًا ومن اجتاز بها.
ب -والزيارة البدعية: أن يكون مقصود الزائر طلب حوائجه من ذلك الميت أو الدعاء عند قبره أو الدعاء به فهذا ليس من سنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق الأئمة، وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم -وهذا لفظ لم يُنقل عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله: (من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد؛ ضمنتُ له على الله الجنة)، وقوله: (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي)، أو: (حلَّت عليه شفاعتي) ونحو ذلك - كلها أحاديث ضعيفة؛ بل موضوعة، ليست في شيءٍ من دواوين الإسلام التي يعتمد عليها، ولكن روى بعضها البزار، والدارقطني ونحوهما بأسانيد ضعيفة، لأن من عادة الدارقطني وأمثاله يذكرون هذا في السنن ليُعرف، وهو وغيره يبينون ضعف الضعيف من ذلك، فإذا كانت هذه الأمور التي فيها شرك وبدعة نهي عنها عند قبره وهو أفضل الخلق؛ فالنهي عن ذلك عند قبر غيره أوْلى وأحرى.
8- زيارة البقاع التي بُنيت على الآثار:
وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة وغيرها على آثار النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه غير المسجد الحرام. وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر؛ مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال فيه قبة الفداء، وما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار ونحوها، فإن ذلك كله ليس من سنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قصدًا أو زيارة شيءٍ منها؛ بل هو بدعة.
-------
[36] - حرمة المدينة وردت في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، انظر مثلاً: صحيح البخاري، كتاب فضائل المدينة، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل المدينة.
[37] - نحوه في المسند (6/111)، وكذا مسلم في الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور.