بابٌ في آدابٍ ومسائلَ من السَّلام
فصل: إذا مرّ على واحد أو أكثر وغلبَ على ظنه أنه إذا سلَّم لا يردّ عليه
إما لتكبّر الممرور عليه، وإما لإِهماله المارّ أو السلام، وإما لغير ذلك، فينبغي أن يُسلِّم ولا يتركه لهذا الظنّ، فإنّ السلامَ مأمورٌ به، والذي أُمِرَ به المارّ أن يُسلّم ولم يؤمر بأن يحصل الردّ مع أن الممرور عليه قد يُخطىء الظنّ فيه ويردّ. وأما قول مَن لا تحقيق عنده: إن سلامَ المارّ سبب لحصول الإِثم في حقّ الممرور عليه فهو جهالة ظاهرة وغباوة بيِّنة، فإن المأمورات الشرعية لا تسقط عن المأمور بها بمثل هذه الخيالات، ولو نظرنا إلى هذا الخيال الفاسد لتركنا إنكار المنكر على مَن فعله جاهلاً كونه منكراً، وغلب على ظننا أنه لا ينزجر بقولنا، فإن إنكارنا عليه وتعريفنا له قبحه يكون سبباً لإِثمه إذا لم يقلع عنه، ولا شكّ في أنُّا لا نترك الإِنكار بمثل هذا، ونظائر هذا كثيرة معروفة، واللّه أعلم.
ويُستحبّ لمن سلّم على إنسان وأسمعه سلامه وتوجّه عليه الردّ بشروطه فلم يرد؛ أن يحلِّله من ذلك فيقول؟ أبرأته من حقّي في ردّ السلام، أو جعلتُه في حِلٍّ منه ونحو ذلك، ويلفظ بهذا، فإنه يسقط به حقّ هذا الآدمي، واللّه أعلم.
وقد روينا في كتاب ابن السني عن عبد الرحمن بن شبل الصحابي رضي اللّه عنه، قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " مَنْ أجَابَ السَّلامَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَلَيْسَ مِنَّا " .
ويُستحبّ لمن سلَّم على إنسان فلم يرد عليه أن يقول له بعبارة لطيفة: ردُّ السلام واجبٌ، فينبغي لك أن تردّ عليّ ليسقطَ عنك الفرضُ، واللّه أعلم.
فصل: إذا كان جالساً مع قوم ثم قام ليفارقهم، فالسنّة أن يُسلِّم عليهم.
فقد روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما، بالأسانيد الجيدة، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " إذَا انْتَهَى أحَدُكُمْ إلى المَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ فإذَا أَرَادَ أنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الأُولى بأحَقّ مِنَ الآخِرَةِ " قال الترمذي: حديث حسن.
قلت: ظاهر هذا الحديث أنه يجب على الجماعة ردّ السلام على هذا الذي سلَّم عليهم وفارقهم، وقد قال الإِمامان: القاضي حسين وصاحبه أبو سعد المتولّي: جرتْ عادةُ بعض الناس بالسلام عند مفارقة القوم، وذلك دعاءٌ يُستحبّ جوابه ولا يجب؛ لأن التحية إنما تكون عند اللقاء لا عند الانصراف، وهذا كلامُهما، وقد أنكره الإِمام أبو بكر الشاشي - الأخير من أصحابنا - وقال: هذا فاسد، لأن السَّلامَ سنّةٌ عند الانصراف كما هو سنّة عند الجلوس، وفيه هذا الحديث، وهذا الذي قاله الشاشي هو الصواب.
فصل: ويستحبّ إذا دخل بيته أن يُسلِّم وإن لم يكن فيه أحد
وليقل: السَّلامُ عَلَيْنا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وقد قدَّمنا في أول الكتاب بيان ما يقوله إذا دخل بيته. وكذا إذا دخل مسجداً أو بيتاً لغيره ليس فيه أحد يُستحبّ أن يُسلِّم وأن يقول: السَّلامُ عَلَيْنا وَعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
فصل
قال الماوردي: إذا دخل إنسانٌ على جماعة قليلة يعمُّهم سلامٌ واحد، اقتصر على سلام واحد على جميعهم، وما زاد من تخصيص بعضهم فهو أدب، ويكفي أن يردّ منهم واحدٌ، فمن زاد منهم فهو أدب. قال: فإن كان جمعاً لا ينتشرُ فيهم السلام الواحد كالجامع والمجلس الحفل؛ فسنّة السلام أن يبتدىء به الداخل في أوّل دخوله إذا شاهدَ القومَ ويكون مؤدياً سنّة السلام في حقّ جميع مَن سمعه، ويدخلُ في فرض كفاية الردّ جميعُ مَن سمعه، فإن أرادَ الجلوس فيهم سقط عنه سنّة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وإن أراد أن يجلس فيمن بعدَهم ممّن لم يسمع سلامه المتقدّم ففيه وجهان لأصحابنا: أحدُهما أن سنّة السلام عليهم قد حصلت بالسلام على أوائلهم لأنهم جمع واحد، فلو أعاد السلام عليهم كان أدَباً، وعلى هذا أيُّ أهل المسجد ردّ عليه سقط به فرض الكفاية عن جميعهم. والوجه الثاني أن سنّة السلام باقية لمن لم يبلغهم سلامه المتقدم إذا أراد الجلوس فيهم، فعلى هذا لا يسقط فرض ردّ السلام المتقدم عن الأوائل بردّ الأواخر.
فصل: إذا مشى في السوق أو الشوارع المطروقة كثيراً ونحو ذلك مما يكثر فيه المتلاقون
فقد ذكرَ أقضى القضاة الماورديّ أن السلام هنا إنما يكونُ لبعض الناس دون بعض. قال: لأنه لو سلَّم على كلّ مَن لقي لتشاغل به عن كل مهمّ، ولخرج به عن العُرْف. قال: وإنما يُقصد بهذا السلام أحدُ أمرين: إما اكتساب ودّ، وإما استدفاع مكروه.
روينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ على المَاشِي، وَالمَاشِي على القاعِدِ، وَالقَلِيلُ على الكثير " وفي رواية للبخاري: " يُسَلِّمُ الصَّغيرُ على الكَبيرِ، وَالمَاشِي على القاعِدِ، وَالقَلِيلُ على الكَثِيرِ " .
قال أصحابُنا وغيرُهم من العلماء: هذا المذكور هو السنّة، فلو خالفوا فسلَّم الماشي على الراكب، أو الجالس عليهما لم يُكره، صرّح به الإِمام أبو سعد المتولي وغيره، وعلى مقتضى هذا لا يُكره. ابتداء الكثيرين بالسلام على القليل، والكبير على الصغير، ويكونُ هذا تركاً لما يستحقّه من سلام غيره عليه، وهذا الأدبُ هو فيما إذا تلاقى الاثنان في طريق، أما إذا وَرَدَ على قعود أو قاعد؛ فإن الواردَ يبدأُ بالسلام على كل حال، سواء كان صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً، وسمَّى أقضى القضاة هذا الثاني سنّة، وسمّى الأوّل أدباً وجعلَه دون السنّة في الفضيلة.